تتوزَّع شهادات الإيمان يمينًا وشِمالًا على كل الناس مهما كانت طبيعة إيمانهم ومهما كانت نوعيَّة سلوكهم. يكفي أن يؤمن البعض بأساسيَّات عقائديَّة مُعيَّنة، مُحَدَّدَة من قِبَل الناس، حتى يُصَنفوا مؤمنين. أيضًا، يكفي لآخرين القيام ببعض الأعمال الصالحة حتلى يتأهَّلوا لمرتبة مُتقدمة في دائرة الإيمان المسيحي المعروف. “الإيمان ليس للجميع” (2تسالونيكي 2:3). إنَّ هذا ليس دعوة للإحباط بل لتشجيع الإنسان على البحث عن الإيمان الحقيقي والأصيل.
يوجد مفهوم مبني على الإعتقاد بأنَّ الإيمان هو دائرة الأفكار والمشاعر الروحانيَّة التي تعلو على المنطق والمادة وتتنوَّع عند كل فرد أو جماعة بحسب الثقافة أو التجربة أو الإستحسان. هكذا إيمان يُقَدِم نوعًا من الراحة للإنسان بسبب إنتماء صاحبه لجماعة تعتنق نفس الأفكار ولها نفس التطلُّعات. هو يُقدِّم لصاحبه أجوبة لأسئلة كثيرة وتطمينات لمخاوف كثيرة وأمَلًا بشيء أفضل بعد الموت. بالمقابل إنَّ الإيمان المسيحي الحق هو عطيّة سماويَّة وليس وسيلة أو عملًا يعمله الأنسان للوصول إلى السماء، “لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ.” (أفسس 8:2). هو ليس إعتناق عقيدة معيَّنة أومفهوم معيَّن، بل هو قبول بِرَّ الله بواسطة يسوع المسيح، “الْبِرُّ الَّذِي مِنَ اللهِ بِالإِيمَانِ” (فيلبي 9:3). إذن، الإيمان هو هبة من الله ننال بواستطها بِرَّ الله وموعد الروح. هو القناة التي نحصل منها على الخلاص والتبرير الذي صَنَعَهُ يسوع على صليب الجُلجثة. إذا جُمِع كل ما ذُكر عن الإيمان في الكتاب، نجده يتضمَّن على الأقل ثلاثة جوانب أو نواحي وهي، المعرفة، التصديق، والثقة.
قد يُبَسِّط البعض هذا الإيمان الى أن يُجرِّدوه من التفاصيل وبالتالي لا يتعلَّموا ولا يتغيَّروا ولا يُحاسَبوا على مواقفهم، ثمَّ يَصفون إيمانهم هذا بالإيمان البسيط. نعم أَوْصَانا يسوع أن نكون بسطاء كالحمام، لكن هل يعني هذا أن الإيمان هو أمر بسيط؟ يقول المُصلح الكبير جون كالفن عن هذا الموضوع مُشدِدًا على أهميَّة الإيمان الواعي، “الإيمان ليس هو الجهل، بل هو معرفة الله ومعرفة إرادة الله. إن الإيمان يتكوَّن من معرفة الله والمسيح، وليس مجرَّد إحترام الكنيسة. إنَّ كلَّ الكتاب يُعلِّم بأن الإيمان الحقيقي هو الإيمان المصحوب بالفهم المستنير… وإيماننا يجب أن يستند على كلمة الله. والواقع أن الإيمان الذي لا يتأسَّس على الكتاب المقدس، يكون أشبه بقصص الخرافات والضلالات”.
ليس الإيمان بسيطًا بل عميقًا. لا يُشترى ولا يُصنَّع لأنه ثمين. أمَّا إذا كان المقصود بالبساطة هو عدم التعقيد والإستغناء عن الإجتهادات البشريَّة، فهذا جيد جدًا. لكن لا يمكن أن يكون معنى البساطة هو الجهل والإستخفاف بالمنطق أو العِلم. الكثرة ناتجة عن الخلط. لا يُشبه إيمان المسيحين إيمان أحد، كما أنَّ إله المسيحين لا يُشبه أي إله. إنَّ التوفيق بينه وبين الآلهة الأخرى هو أولًا بسبب تعريف خاطىء له، وبسبب النظرة السطحيَّة الغَير كتابيَّة. إنَّ “تبسيط” الإيمان المسيحي بُغية تقريبه من “الإيمانات” الأخرى يُضْعِف تَمَايزه عنها. فالإيمان المسيحي هو عطيَّة سماويَّة ثمينة، هو إيمان مبني على الحق المُعلن في الكتاب المقدس، منطقي، رغم أنَّه أحيانًا فوق المنطق لكن ليس ضِدَّه.
عندما نقرأ عن أبطال الإيمان المسيحي الحق الذين صنعوا البطولات وتحدّوا بقوة وثابروا إلى النهاية، نتعجّب كيف أصبح الإيمان عند من يدّعونه هذه الأيام بهذا الضُعف والرُخص والسخافة. إنَّ الإيمان يستحضر قوة الله في التاريخ، ويحِّرك يده القديرة، ويأتي ببركات السماء على الأرض. لا يُمكن أن يُخفى الإيمان في القلوب ويُدفن مهزومًا في القبور. فهو لا ينقص ويتلاشى مع الوقت، بل يبدأ من المُستحيل. أين هو الإيمان الذي تكلَّم عنه المسيح، الذي ينقل الجبال ويجعل أي أمر مستطاع بحسب وعده؟ أين هو الإيمان الذي لا يضعف ولا يهرب، الذي يثق من دون أن يرى؟ هل هو في كُل مكان؟ الجواب يأتي من المسيح نفسه عندما قال: “لَكِنْ مَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ أَلَعَلَّهُ يَجِدُ الإِيمَانَ عَلَى الأَرْضِ؟” (متى 8:18). مِمَّا يؤسَف له أنه يوجد من لا يَعرف هذا الحق، ويعمل بإستمرار على توسيع دائرة الإيمان ويعتبر كلَّ من أراد، وحتَّى من لا يريد أو يدرك، مؤمنًا. يتعارض هذا العمل وهذا الفكر مع كُل ما سبق وذُكِر، أوعلى الأقل، يتعارض هذا مع حقيقة “الإيمان ليس للجميع” (2تسالونيكي 2:3).
نجاح رُغم الإخفاق
أثناء ثورة الإصلاح في إنجلترا، أصبح رئيس الأساقفة توماس كرانمر إنجيليًّا، وراح يعمل على إصلاح الكنائس. قُبض عليه وعُذّب ثلاث