هل انتهى زمن العجائب والشفاء كما في عهد الكنيسة الأولى، أم انتهى زمن الإيمان الذي يأتي بالعجائب؟ يظن البعض بأن العجائب تُحي الإيمان المفقود. آخرون مُخْلصون يؤمنون بأن المواهب المُعجِزية والشفائية قد عادت وظهرت في الكنيسة بعد غياب. بلا شك الموضوع شائك وصعب، وما سنتناوله هنا باختصار وتواضع ليس إلا مبادئ مبنيَّة على التفسير التاريخي للكنيسة، من دون الإحتكام أو الإتكال على إختبارات ومشاهدات لا نستطيع الحُكم عليها لا سلبًا ولا إيجابًا.
الكنيسة الأولى والعلامات التأسيسية
كُل بناء يحتاج لأساس ثابت لا يتغيَّر، وعلى هذا الأساس يُبنى الجديد. استخدم الرسول بولس هذا التشبيه عن الأساس في بناء الكنيسة: “مَبْنِيِّينَ عَلَى أَسَاسِ الرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ، وَيَسُوعُ الْمَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَرُ الزَّاوِيَةِ، الَّذِي فِيهِ كُلُّ الْبِنَاءِ مُرَكَّباً مَعاً يَنْمُو هيْكَلاً مُقَدَّساً فِي الرَّبِّ” (أفسس 20:1 و21). أضاف في رسالة أخرى: “حَسَبَ نِعْمَةِ اللهِ الْمُعْطَاةِ لِي كَبَنَّاءٍ حَكِيمٍ قَدْ وَضَعْتُ أَسَاساً وَآخَرُ يَبْنِي عَلَيْهِ” (1 كورونثوس 10:3).
إن خدمة الرُسل هي خدمة تأسيسيَّة لا تتكرَّر، كما كانت خدمة المسيح نفسه، تأسيسيَّة ولا تتكرَّر، إذ قال: “أبني كنيستي” (متى 18:16). هذا العمل الذي بدأ بالمسيح والرسل وضع الأساس والقاعدة للبناء لكي يُبنى عليه، وليس لإعادة بنائه في كُل عهد وجيل. جاءت المواهب المُعجزيَّة مُرافقة لهذه الخدمة ومُثبِّةً لها، “فَكَيْفَ نَنْجُو نَحْنُ إِنْ أَهْمَلْنَا خَلاَصاً هَذَا مِقْدَارُهُ، قَدِ ابْتَدَأَ الرَّبُّ بِالتَّكَلُّمِ بِهِ، ثُمَّ تَثَبَّتَ لَنَا مِنَ الَّذِينَ سَمِعُوا، شَاهِداً اللهُ مَعَهُمْ بِآيَاتٍ وَعَجَائِبَ وَقُوَّاتٍ مُتَنَّوِعَةٍ وَمَوَاهِبِ الرُّوحِ الْقُدُسِ، حَسَبَ إِرَادَتِهِ؟” (العبرانين 3:2-4). كثير مِمَّا رافق هذا العمل التأسيسي لا يَصلُح لأن يكون نمطًا أو نموذجًا لنا في إكمال العمل، بل ما نحتاج إليه نجده في النموذج والنمط اللذين أوصى بهما بولس الرسول في رسائله وتوصياته الكثيرة للكنائس. إذا ميّزنا بمنطق وعلم في ما كُتب في الأناجيل وبداية أعمال الرسل، بين ما هو وصفي أو سردي، وما هو وصية أو نموذج للتقليد، نتجنَّب الكثير من الأخطاء.
رُسل المسيح
يوجد فرق كبير بين رُسل المسيح ورُسل الكنيسة. لرُسل المسيح ثلاث علامات أو صفات مُتمَيزة لا يشترك أحد اليوم معهم فيها.
أولًا، التعين المباشر من المسيح: “وَأَقَامَ اثْنَيْ عَشَرَ لِيَكُونُوا مَعَهُ وَلْيُرْسِلَهُمْ لِيَكْرِزُوا وَيَكُونَ لَهُمْ سُلْطَانٌ عَلَى شِفَاءِ الأَمْرَاضِ وَإِخْرَاجِ الشَّيَاطِينِ” (مرقس 14:3-15)، “وَلَمَّا كَانَ النَّهَارُ دَعَا تَلاَمِيذَهُ وَاخْتَارَ مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ أَيْضاً «رُسُلاً»” (لوقا 13:6). نجد خصوصيَّة الرسل وتميُّزهم عن حتى باقي التلاميذ الذين كانوا يتبعون الرب يسوع. فبولس الرسول عندما كتب رسالته لأهل غلاطية وضَّح من البداية أنه أخذ إرساليته مباشرة من الرب، إذ لم يكن من الإثني عشر. هذا يدلّ على أن المسألة ضروريَّة، “بُولُسُ، رَسُولٌ لاَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ بِإِنْسَانٍ، بَلْ بِيَسُوعَ الْمَسِيح وَاللهِ الآبِ” (غلاطية 1:1). إن سفر أعمال الرسل يتكلَّم عن الرُسل بأنهم “الرُّسُلَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ” (أعمال الرسل 2:1). إذن يوجد فرق بين من يختارهم المسيح مباشرة مثل الإثني عشر والرسول بولس ورُسل الكنائس المحليَّة.
ثانيًا، عليهم أن يكونوا شهود عيان لقيامة يسوع أولًا وللحوادث التي كتبوا عنها، هذه تتمَّة للإرساليَّة المباشرة من المسيح. فهم المدماك الأول في الكنيسة والأساس الذي وُضِعَ على حجر الزاوية، الصخرة يسوع المسيح. هذه كانت حجّة الرسول بولس نفسها، فقال: “أَلَسْتُ أَنَا رَسُولاً؟ أَلَسْتُ أَنَا حُرّاً؟ أَمَا رَأَيْتُ يَسُوعَ الْمَسِيحَ رَبَّنَا؟ أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ عَمَلِي فِي الرَّبِّ؟!” (1كورونثوس 1:9)
ثالثًا، امتلاكهم الموهبة والقدرة الخاصة لصنع العجائب لإظهار وتثبيت رسوليّتهم للآخرين. ما كتبه الرسول بولس في رسالة كورنثوس هو مفصلي ومهم جدًا للموضوع ككُل: “إِنَّ عَلاَمَاتِ الرَّسُولِ صُنِعَتْ بَيْنَكُمْ فِي كُلِّ صَبْرٍ، بِآيَاتٍ وَعَجَائِبَ وَقُوَّاتٍ” (2كورونثوس 12:12). هذا يؤكد وجود علامات خاصّة للرسوليَّة، فلو كانت هذه القُدُرات في مُتناول الجميع، كيف كانت الكنيسة الأولى ستُميز بين الرُسل والآخرين؟ إذا كانت للجميع لن تصلح لتكون علامة.
هؤلاء الرُسل تكلموا باسم المسيح بشكل مختلف عن الباقين، إذ إنهم تكلموا بسُلطة مُفوّضة من المسيح وبالنيابة عنه، “إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْسِبُ نَفْسَهُ نَبِيّاً أَوْ رُوحِيّاً فَلْيَعْلَمْ مَا أَكْتُبُهُ إِلَيْكُمْ أَنَّهُ وَصَايَا الرَّبِّ” (1كورنثوس 14 :37). ما كتبوه وقالوه هو وصايا الرب ولا يمكن لأحد في هذه الايام أن يدّعي أن ما يقوله هو على المستوى نفسه هذا، وإلاّ علينا أن نضيف كلامه إلى الكتاب المقدّس ونعتبره موحى به ومعصومًا أيضًا. من يدّعي العكس، أي إمتلاك الموهبة الرسوليَّة، تقع عليه مسؤولية تقديم البرهان والدليل على مساواة موهبته مع رُسل المسيح.
لو كان ما زال يوجد رسلٌ اليوم يمتلكون الموهبة نفسها لوجب إبقاء الكتاب المقدَّس مفتوحًا ولم يُقفل على قانونيَّته. كيف يجب أن نتعامل مع ما يقولونه أو يكتبونه إذا سلَّمنا لرسوليّتهم؟ الكتاب المقدَّس هو الكلمة النبويَّة التي أُعطيت بواسطة رجال أتقياء مُختارين، تلقّوا الوحي وحُفظت أذهانهم وكتاباتهم من الخطأ، وهذا لم يتكرَّر ولا حاجة له.
لا وجود للرُسل اليوم ولا للأنبياء بهذا الشكل، فالرُسل هم هبةٌ خاصة للكنيسة “فَوَضَعَ اللهُ أُنَاساً فِي الْكَنِيسَةِ: أَوَّلاً رُسُلاً ثَانِياً أَنْبِيَاءَ… أَلَعَلَّ الْجَمِيعَ رُسُلٌ؟ أَلَعَلَّ الْجَمِيعَ أَنْبِيَاءُ؟…” (1كورونثوس 28:12 و29).
نجد في رسالة أفسس هذا الكلام الواضح: “وَهُوَ أَعْطَى الْبَعْضَ أَنْ يَكُونُوا رُسُلاً، وَالْبَعْضَ أَنْبِيَاءَ…” (أفسس 11:4). عدم وجود الرسل اليوم لا يعني أنَّه لا وجود اليوم للشفاء أو العجائب. يوجد فرق كبير بين الصلاة طَلبًا للشفاء وكلمة نبوة عن الشفاء. الإيمان بإمكانيَّة الشفاء بواسطة تدخل الله العجيب بناء على صلاة أولاده أو متى يشاء هو بالتأكيد أمر مستمر.
يوجد في سفر التثنية والفصل 18 تأكيد لعدم وجود أنبياء على مستويات مختلفة من النجاح. يكفي الفشل ولو مرة واحدة حتى يُكشف كَذِب وادّعاء النبي بنقل كلام الله، “فَمَا تَكَلمَ بِهِ النَّبِيُّ بِاسْمِ الرَّبِّ وَلمْ يَحْدُثْ وَلمْ يَصِرْ فَهُوَ الكَلامُ الذِي لمْ يَتَكَلمْ بِهِ الرَّبُّ بَل بِطُغْيَانٍ تَكَلمَ بِهِ النَّبِيُّ فَلا تَخَفْ مِنْهُ” (22). نشاهد الكثير من إجتماعات الشفاء التي يرتبط فيها النجاح والفشل بإيمان المريض! هل مارس رُسل المسيح موهبة الشفاء هكذا؟ ذُكر عن الرسول بطرس: “حَتَّى إِنَّهُمْ كَانُوا يَحْمِلُونَ الْمَرْضَى خَارِجاً فِي الشَّوَارِعِ وَيَضَعُونَهُمْ عَلَى فُرُشٍ وَأَسِرَّةٍ حَتَّى إِذَا جَاءَ بُطْرُسُ يُخَيِّمُ وَلَوْ ظِلُّهُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ” (أعمال الرسل 15:5)، وعن الرسول بولس ذكر الكتاب المقدَّس في سفر أعمال الرسل: “وَكَانَ اللهُ يَصْنَعُ عَلَى يَدَيْ بُولُسَ قُوَّاتٍ غَيْرَ الْمُعْتَادَةِ حَتَّى كَانَ يُؤْتَى عَنْ جَسَدِهِ بِمَنَادِيلَ أَوْ مَآزِرَ إِلَى الْمَرْضَى فَتَزُولُ عَنْهُمُ الأَمْرَاضُ وَتَخْرُجُ الأَرْوَاحُ الشّرِّيرَةُ مِنْهُمْ” (11:19 و12).
إرادة الله والإيمان
أولًا، هل السُلّطة بِيَدنا (عَبرَ الإيمان) أو بيد الله وهو يعطيها لمن يشاء (بواسطة الإيمان)؟ الفرق كبير. يوجد أهداف في مُعامَلات الرّب. هو يستخدم سُلطته وقدرته بحسب مشيئته دائمًا، وإذا قام بما قام به عند تجسده وفي بناء كنيسته، هذا لا يُلزِمه أن يقوم بالعمل نفسه لأن بعض البشر وجدوا تشابهًا للظروف أو الحاجة بحسب إرادتهم. المسيح هو هو أمسًا واليوم وإلى الأبد، حُرّ وغير مُلزَم بما يُقرِّرُهُ الإنسان، بل هو أزلي وأبدي في طبيعته وصفاته، والإيمان الصحيح يُطالب بمشيئته (لتكن مشيئتك) ولا يُسَيِّرُها.
ثانيًا، ألم يوزِّع الله المواهب المُختلفة بحسب مشيئته، ولكُل منها مقدارًا خاصًا من الإيمان؟ “كَمَا قَسَمَ اللهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِقْدَاراً مِنَ الإِيمَانِ” (رومية 3:12)، “وَلَكِنْ لَنَا مَوَاهِبُ مُخْتَلِفَةٌ بِحَسَبِ النِّعْمَةِ الْمُعْطَاةِ لَنَا” (رومية 6:12)، “قَاسِماً لِكُلِّ وَاحِدٍ بِمُفْرَدِهِ كَمَا يَشَاءُ” (1كورونثوس 11:12). إذن، لكُل موهبة خاصّة مقدار خاص من الإيمان مُعطى من الرب. هذا بالطبع لا يُشير إلى إنتهاء الإيمان الآن لكن إلى إختلاف مقداره أو على الأقل خصوصيَّته. أكَّد خادم الله برسوم ميخائيل هذه الحقيقة ووضَّح ما لا تعنيه هذه الحقيقة بالتالي “لا محلّ للظنّ بأن انتهاء المواهب المعجزية ومقدار الإيمان الخاص بممارستها، يطعن في قدرة الله على كل شيء، أو في إيمان الذين يقولون بإنتهائها طبقًا لما فهموه من كلمة الله… فانتهاء المواهب المعجزيَّة لا يعني بالمرة انتهاء قدرة الله على عمل المعجزات، حاشا. بل كا ما يعنيه هو أن الله الآن لا يعطي الإنسان سلطانًا لعمل المعجزات”
حتى في زمن البداية والتأسيس، لم يُعطِ الربّ جميع المؤمنين هذه المواهب المُعجزيَّة، فما المُشكلة أن لا يُعطيها الآن لمؤمنين الأيام الأخيرة؟
هل الشّفاء هو دائماً إرادة الله للإنسان؟ إذا كان الجواب نعم، كيفَ يتمجّد الله بالألم وبالتّغير الّذي يُحدثه الألم في حياتنا؟ إن للأمر علاقة وثيقة بالتقديس. كم من أمثلة عن كثيرين مِن مَن لم يُشفوا: ميليتس، وبولس نفسَهُ… ألم ينصح بولس الرسول تيموثاوس بشرب القليل من الخمر لشفاء أسقام معدته! لماذا لم يشفِه؟
في كتاب “الشفاء الشائع” الذي يتناول الموضوع بتفصيل أكثر يذكر بيتر ماسترز ما يلي: “فكرة أن معجزات الشفاء تمّت في كل مكان وفي كل وقت هي الوهم الكامل. من السهل إثبات أن معجزات الشفاء التي حدثت بواسطة بشريّة كانت نادرة نسبيًا في أزمنة العهد الجديد. يؤمّن أعمال 9 مِثالًا لندرة هذه الشّفاءات الملحوظة، والدهشة التي كانت تولدها في النفوس.”
نحن هنا أمام مسألة بغاية الخطورة. أيَّة سُلطة يجب أن نتبع؟ سلطة الكتاب المُقدس التي تَثَبّتّت وأُقفل عليها أم سُلطة رسل اليوم؟ من هم وكيف نميزّهم وهم يختلفون في سلوكهم وعقائدهم عن بعضهم البعض وعن رُسل المسيح الأوائل!؟
وعود الرب
كثير من الوعود المُستخدمة لدعم رأي إستمراريَّة المواهب المُعجزية هي ببساطة وعود لرسل المسيح بشكل مباشر، وللجميع من بعدهم بتَبعيتها وبتأثيرها. مَثلًا، أرسل يسوع الروح القدس ليمكث معهم ويذكرهم بكل ما قاله ليكتبوا الوحي المُقدَّس بشكل خاص. وعندما تكلم الرب يسوع عن أعمالٍ أعظم سيقوم بها التلاميذ، ولو كان هو بالتاكيد أصلًا وراءها، هي ليست أعظم مما يستطيع أن يفعله هو. فهي ليست أعظم بِمعنى أشهر أو أقوى، بل أعظم بتأثيرِها في بدء مسيرة الكنيسة وفعاليّتها الزّمنيّة. مِثال على ذلك كيف تمَّ خلاص ثلاثة آلاف شخص في يوم واحد.
وما رأيناه من سلطة المسيح والرسل من بعده على الارواح الشريرة هو تأكيد الإنتصار الذي سيستفيد منه جميع المؤمنين. يُجَيِّر لنا المسيح الإنتصار إذ تمَّ ولا داعي لنُعِيد خصوصيّات المعركة التي حُسمت قبلًا، “إِذْ جَرَّدَ الرِّيَاسَاتِ وَالسَّلاَطِينَ اشْهَرَهُمْ جِهَاراً، ظَافِراً بِهِمْ فِيهِ” (كولوسي 15:2). المطلوب الإستفادة والتَمتُّع بالإنتصار ونتائجه وليس تكرار المعركة من جديد.
الشفاء الكامل
هناك مسألة هامّة تخصّ وعود الرب الكثيرة وهي عدم الجزم بوعود الراحة والشفاء على أنها لهذه الحياة، ورفض إمكانية تحقيقها في الحياة الأبديَّة. لا يمكن التحدث عن أي وعد بمعزل عن قرينة النص التي تُظهر إمكانية وجود ظرف خاص، أو زمان ما، أو شرط ما، أو وقت معين للتحقيق، أو حتى كل هذه مُجتمعة. ألا يجب أن يتَحقَّق الشفاء الكامل بالأبديَّة فقط، إذ كيف ننتظر فداء أجسادنا عند المجيء الثاني للمسيح بحسب رسالة رومية والفصل الثامن ونحن نُطالب به الآن؟ “نَحْنُ أَنْفُسُنَا أَيْضاً نَئِنُّ فِي أَنْفُسِنَا مُتَوَقِّعِينَ التَّبَنِّيَ فِدَاءَ أَجْسَادِنَا” (23). إنَّ رسالة بطرس الرسول الأولى، والفصل الثالث والخمسين من سفر النبي إشعياء خير دليلين على ذلك. ماذا عن الأمراض المُستعصية ومن فقدَ أعضاء من جسمه، هل يمكننا أن نستخدم وعود الرب بالشفاء له في هذه الحياة!
إنسجام لاهوتي
إن وعود الرب الشهيرة من مثل هذه: “وَمَهْمَا سَأَلْتُمْ بِاسْمِي فَذَلِكَ أَفْعَلُهُ” (يوحنا 13:14)، و”إِنَّ كُلَّ مَا طَلَبْتُمْ مِنَ الآبِ بِاسْمِي يُعْطِيكُمْ” (يوحنا 23:16)، و”وَكُلُّ مَا تَطْلُبُونَهُ فِي الصَّلاَةِ مُؤْمِنِينَ تَنَالُونهُ” (متى 22:21)، وغيرها ليست مُنعزلة عن كُل المكتوب. فهل ممكن ألا تكون هناك شروط تَتَحكَّم بالإستجابة؟
عن الموضوع نفسه مكتوب أيضًا: “إِنْ ثَبَتُّمْ فِيَّ وَثَبَتَ كلاَمِي فِيكُمْ تَطْلُبُونَ مَا تُرِيدُونَ فَيَكُونُ لَكُمْ” (يوحنا 7:15)، و”إِنْ طَلَبْنَا شَيْئاً حَسَبَ مَشِيئَتِهِ يَسْمَعُ لَنَا” (1يوحنا 14:5). نرى هنا الشروط مثل “الثبات” و”حسب مشيئته” التي إن دلَّت، تدل على عدم جواز استخدام أي وعد مُنفردًا، تفسيره غير مبني على قواعد تفسيريَّة صحيحة أوَّلها الإنسجام الاهوتي. إذن، حتى ولو اُستُخدمت كلمات شموليَّة مثل “مهما” و”كُل”، بالتأكيد يبقى التطبيق محدود، لا يستطيع أن يشمل كُل شيء بالمُطلق.
حاجة المريض
ماذا يحتاج المريض؟ يوجد في رسالة يعقوب والفصل الخامس وَصْفة كاملة ومُفَصَّلة لما يحتاج الإنسان المريض، أن يقوم به من خطوات محدَّدة. هذا هو المقطع الأصح الذي يجب أن نستخلص منه تعليمات واضحة للجميع “وصفة كاملة” لإتّباعها وليس الأخذ من مقاطع تسرد ما قام به المسيح أو الرسل بشكل خاص، في وقت وتدبير خاصّين.
أولًا، عليه أن يدعو شيوخ الكنيسة ليُصلّوا. ليس على المريض أن يبحث عن صاحب موهبة أو الذهاب لإجتماع خاص مُتَخَصِّص بالشفاء. الشيوخ، مهما كانت مواهبهم، سيُصلّون، أي يطلُبون بإيمان المعونة والرحمة والشفاء من الرب. هذا الإيمان يتَضَمَّن ثقة بأن الربّ قادر على كل شيء، وأنَّ له خطّة وبرنامجًا نجهله، وأنَّنا نحتاج لقوة الإحتمال والصبر والفهم أيضًا، بالإضافة لتوقّع الشفاء الذي قد يحدث أو لا، حسب مشيئة الله.
ثانيًا، على الشيوخ أن يدهنوا المريض بزيت بإسم الرب، أي تقديم العلاج المبدأي العادي المُتوفر حينها. وأاستخدمت الكلمة “دهن” وليس “مسح” للتعبير عن البُعد العلمي والمادي للعمل، وليس لأي طقس ديني. إن التدبير الطبّي والمنطقي البسيط ضروري للمؤمنين لأنه من عطايا الله حتمًا. والله إستخدم ويستخدم كل الطبّ والعلم لفائدة أولاده وتتميم مقاصده بشفائهم. ببساطة، على الشيوخ أن يهتمّوا بأن يحصل المريض على العناية والإهتمام اللازم والطبيعي مُرافقًا بالصلاة والإتكال على الرب. فالبركة لا تكمن في الزيت المادي بل في طاعة الرب، بالعمل نيابة عنه ولأجله، المُعبر عنها بتعبير “بإسم الرب”.
إنَّ صلاة الإيمان لا تُجَرِّد الرب من سلطانه، بل تلجأ إليه. لا يحتاج المريض إلى وعود وردية وتوقعات أكيدة لا تأخذ مشيئة الرب بعين الإعتبار، إذ هي مبنيَّة على تعاليم خاطئة في شُموليتها. منها، المرض دائمًا هو عمل إبليس. الله دائمًا يَعِد بالصحة والعافية. يسوع مِثالنا دائمًا في كل شيء. إن وجود كلمة “دائمًا” هو المشكلة لأنه رغم وجود أمثلة مشابهة لهذه، إلاّ أنها ليست ثوابت ومبادئ، بل حالات. صحيح أن إبليس يتدخَّل، لكنه يفعل ذلك بإذن وتحت سيادة الله. صحيح أن الله يعد بالصحة والعافية، إنَّما أحيانًا مرتبطة بشروط الطاعة في تدبير وموقف معين. مرات كثيرة أكّد الرب حتميَّة مجيء الضيقات والصعوبات لأجل الإنجيل. صحيح أن يسوع مِثالنا، إنَّما ليس في كل شيء. نحن البشر لا نُشبهُه في سلطانه وطبيعته وقدرته ومعرفته، فكيف نُقلِّدُهُ عندما يمارس سلطانه في علاقته مع خلائقه!
لا يحتاج المريض المؤمن إلَّا أن يطمئن بأن إبليس ليس له سلطة عليه بعد إنتصار المسيح. لا يحتاج إلَّا بأن يطمئن أن إلهه وحبيبه يسوع هو وحده يتحكم بكل الأمور. عليه أن يطمئن بأنَّ حتى المرض والألم والظروف الصعبة ستتحول للخير الروحي ولمجد الله، وستنتهي قريبًا حين سيمسح الله كل دمعة من عيون أتباعه. وإذا وجِدت خطية، هذا ما ذكره يعقوب، والذي يشير ضمنيًا لإمكانية عدم وجود خطية في مرض ما أيضًا، تُغفر له. فالتوبة ستأتي بالغفران. إذن، إذا كانت بسبب الخطية يوجد غفران، وإذا كانت لتمجيد الرب وتَنقيتنا يوجد نعمة للإحتمال، وإذا كُنَّا لا ندري لماذا، يوجد كلام الرب الذي يقول: “لَسْتَ تَعْلَمُ أَنْتَ الآنَ مَا أَنَا أَصْنَعُ وَلَكِنَّكَ سَتَفْهَمُ فِيمَا بَعْدُ” (يوحنا 7:13).
الأيام الاخيرة
مظاهر الشفاء والآيات الكاذبة، كما هي مطروحة اليوم، هي من وسائل خداع الشيطان وخصوصًا في الأيام الأخيرة. الرب حذَّرنا من أن نتبع أصحابها، “لأَنَّهُ سَيَقُومُ مُسَحَاءُ كَذَبَةٌ وَأَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ وَيُعْطُونَ آيَاتٍ عَظِيمَةً وَعَجَائِبَ حَتَّى يُضِلُّوا لَوْ أَمْكَنَ الْمُخْتَارِينَ أَيْضاً” (متى 24:24)، “الَّذِي مَجِيئُهُ بِعَمَلِ الشَّيْطَانِ، بِكُلِّ قُوَّةٍ، وَبِآيَاتٍ وَعَجَائِبَ كَاذِبَةٍ” (2تسالونيكي 2: 9). عندنا اليوم الكلمة النبويَّة الكاملة والكافية والتي تَثَبَّتت بألآيات والعجائب مع الرسل ولا نحتاج لإعلانات جديدة. بل على العكس، ما هو جديد هو خطير، وبالآيات والعجائب الكاذبة قد يُخدع البشر. يقول جون ماكآرثر في كتابه “بلبلة كاريزماتية” إنَّه لا توجد وصية في العهد الجديد توجِّهنا أن نبحث عن المعجزات. يتكلَّم متى هنري عن صانعي هذه العجائب المُضِلَّة ويقول: “سوف يتظاهر المخادعون بأنهم مُلهمون من الله… ويعتقد البعض أنهم أشخاص تَمَّ تعيينهم في الكنيسة. عندما يتفاقم القلق العام ويتعاظم خطره، يلجأ الناس لقبول أي شيء يتلمسون فيه الخلاص.” كُلما تقدمت الأيام يظهر هذا الوصف بوضوح أكثر، ونتيقَّن من إقتراب النهاية بسبب إزدياد السطحيَّة في عالم الإيمان، وإزدياد الحاجة والرغبة للعجائب.
الإنجيل
الإنجيل هو قوّة الله للخلاص، ومَن لن يؤمن بخبر الإنجيل لن يؤمن ولو قام أحد من بين الاموات، هذا ما أشار إليه يسوع المسيح نفسه في مَثل لعازر والغني. مأمورية الكنيسة هي الكرازة بالإنجيل. يشهد الكتاب المقدس والتاريخ أن ما ينتظر الكنيسة دائمًا هو الألم والإضطهاد والشهادة. من الطبيعي أن الآيات والعجائب تتبع المؤمنين، متى أراد الله أن يتدخَّل ويستجيب لصلوات قديسيه، لكن لا يجب على المؤمنين أن يتبعوا الآيات والعجائب. يقول وليم ماكدونالد مُعلِّقًا على الآيات التي تتبع المؤمنين في نهاية إنجيل مرقس: “في أيامنا هذه لا توجد حاجة إلى تلك الآيات، إذ عندنا الكتاب المقدس بأكمله. وإذا كان الناس لا يؤمنون به، فهم لن يؤمنوا على أي حال. ولم يقل مرقس إنَّ هذه الآيات ستستمر. فجُملة “إلى إنقضاء الدهر” غير موجودة هنا كما في إنجيل متى 28 (حيث رافقت وصيَّة “وعلِّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به”).
لا تحتاج كلمة الله الحيَّة الآن إلى براهين وإثباتات عجائبية إذ هي نفسها قويَّة وفعَّالة وأمضى من كل سيف، ويمكننا ان نعتمد عليها ولا نطلب أكثر منها. يقول ماك آرثر في الكتاب نفسه: “إن الله ليس محتاجًا أن يعطينا إعلانًا خاصًا ليساعدنا في السير معه. ففي 2تيموثاوس 16:3 نجد هذا التأكيد: “كُل الكتاب موحى به من الله ونافع للتعليم، والتوبيخ، والتقويم، والتأديب الذي في البر…” إن إعلان الله كامل الآن. وقد سجَّل يوحنا الرسول تحذيرًا آخيرًا في سفر الرؤيا من إضافة أي شيء. إن إغلاق العهد الجديد تبعه غياب أي إعلان جديد، بأي صورة من الصور. ومنذ اكتمال سفر الرؤيا، فإن المسيحين في كل العالم، لم يقرُّوا أيَّة نبوة، مكتوبة أو منطوقة، كحق إلهي من الله.”
هل نُطالب بتكرار التجسد والقيامة وإنسكاب الروح؟ هل نطالب بوحي جديد وإعلان جديد وإنجيل جديد؟ هناك حوادث تاريخية حصلت، إمَّا نبني عليها وننطلق من نتائجها ومفاعيلها، أو نسيء لها عبر جهل هدفها ومحاولة تقليدها.
يُضيف ماك آرثر نصيحة مهمة فيقول: “يجب على الكنيسة الحقيقية في القرن الحالي، أن تُحارب لأجل سيادة وكفاية كلمة الله. نحن لا نتجاسر أن نستسلم للاهوت يُعطي الإختبار والتقليد وزنًا مساويا للكتاب المقدَّس. إن تفرُّد إعلان الله في الكتاب المقدس في خطر. كما ان حقّ الكتاب المقدّس معرّض للتحدّي، وهذا ضلال لا يمكن أن يُذعن له أولئك الذين يحبون كلمة الله.
المواهب المُعجزية هي رسوليَّة ومن يؤمن بإستمرارها عليه أن يدرس النقاط السابقة ويقتنع بأن ما يُقدم من البعض هو على المستوى نفسه والهدف الرسولي الأول. بالنهاية تبقى الشفاءات والمعجزات من أعمال الله التي لا تتوقف في العالم، وطالما باب الصلاة مفتوح ستبقى هذه مُحتملة ومتوقعة.