خدمة المحبة

قُبيْلَ ساعة الصلب الرهيبة بقليل، وقَبْلَ أن يذهب يسوع ليُتَمِم أعظم عمل في التاريخ، إئتزر بمنشفة وإنحنى وغسَّل أرجل تلاميذه. لم ترضَ هاتان اليدان الطاهرتان اللَّتان قريبًا ستُدق بهما المسامير إلاَّ أن تتنازل وتغسل الأرجل التي بعد قليل ستُسرع بالهروب خوفًا من أن تلقى نفس مصير سيدها. الذي أخلى نفسه أخِذًا صورة عبد؛ ها هو يأخذ المُهِمَّة التي تُعتَبَر الأقل شأنًا في زمانها. ها هو المُعَلِّم يُعَلِّم آخر وأصعب درس كان على التلاميذ أن يتعلَّموه ويُطبِّقوه. كانت العادة أن تُغسَل الأرجل قبل بدء العشاء، لكن هذه المرة جلسوا ولم يَقُم أحد بهذا العمل. قد يكون خلاف التلاميذ عن من هو الأعظم بينهم قد وصل إلى ذروته. من هو أعظم بينهم، من يَخْدِم ومن يُخْدَم؟
قال يسوع بوضوح، العظمة تَكمُن في الخدمة والتضحية والبذل، وما من أمر يدفع بهذه الخدمة الى هذا المستوى إلاَّ المحبة. قالها بوضوح، كما فعلتُ أنا إفعلوا، وكما أحببتكم أحبوا بعضكم بعضًا. إنّ درب الجلجثة وضعُفات التلاميذ لم تُثنه عن هذا العمل المتواضع البسيط.
كثيرون هم الذين يدَّعون أنهم في خدمة الناس، وفي الواقع، إنهم يتصارعون على السلطة والمركز والمال. الكُل في خدمة الشعب! الرئيس والزعيم والنائب والمحترم، كلُهم في خدمة الشعب. يا للعجب، إذ الجندي الباسل هو في الخدمة والموظف المُرتشي أيضًا في الخدمة. حتى أن القول الأشهر الذي يردِّده التاجر الفاجر هو “أنا في خدمتك”. يظنُّون أن الخدمة هي عنوان وشعار لا أكثر، والعظمة هي في الشُهرة والجلوس في المُتكىء الأول. المُضحك هو أنَّ الكُل يُصِّرُعلى أنه في خدمة الكُل، وغسل الأرجل أو ما يُشبهها من ممارسات ظاهريَّة شكليَّة تبقى فقط مُهمة للدعاية والتسويق.
لذلك نرى البعض يُطَبِّلون ويزمّرون ويصوِّرون البعض منهم خَدَمَاتِهم و”أعمالهم الحَسَنة” والمتواضعة الشكل حتى يَكسَبوا سُمعة أفضل ويَظهَروا بصورة راقية تُشبع غُرورهم وكِبريائهم، وتُعَبِّد طريقهم نحو حِلم السيادة. إنهم يُكرِّمون آخرين عَلَنًا حتى يُكرَّموا هم أنفسهم من المُشاهدين. يُساعدون ويُطعِمون ويخدِمون لإمتلاك السلطة. ينجحون في أعين الناس ونفوسهم، إنَّما يسقطون في موازين الله.
إنَّ ما فعله يسوع لم يكن مسرحيَّة ولا إستعراضًا كما يفعل هؤلاء المُدّعون المُتموّلون، بل ما فعله هو خدمة حقيقيَّة بدافع الحب الكبير الخاص لمن إختارهم كي يكونوا تلاميذه. كان عَالِمٌ بأنه سيغادرهم وبأنهم سيحتاجون لمن يستمر في غسل أرجلهم خصوصًا في غيابه. ليس التواضع هنا هو الدرس الوحيد، بل ثمَّة درس مهم آخر، ألا وهو أهميَّة خدمة الآخرين بدافع المحبة الصادقة والطاهرة والخالية من أي دوافع خَفيَّة. وعندما يكون دافع الخدمة هو المحبة فقط، تُصبح المصلحة والأهداف الشخصيَّة والنفسيَّة معدومة. وحدها المحبة تستطيع أن تتواضع وتَتَنَازَل وتُضحّي بصدق. فدافع المحبة هو دافع الخدمة نيابةً عن يسوع، هو دافع لخدمةِ مَن أحبّهم يسوع ومات لأجلهم. خدمة بلا مقابل هدفها ليس مجد الذات بل مجد الله وحده، خدمة بجانب أعظم خادم عرفه التاريخ.

Share the Post:

other articles

نجاح رُغم الإخفاق

أثناء ثورة الإصلاح في إنجلترا، أصبح رئيس الأساقفة توماس كرانمر إنجيليًّا، وراح يعمل على إصلاح الكنائس. قُبض عليه وعُذّب ثلاث

Read More

أمراض القلب

تُصَنَّف الكثير من الأمراض، التي ليست عُضويَّة في طبيعتها، على أنها “نفسيَّة”، فتُعالج خطأً بالوسائل الطُبيَّة عبر الأدوية أو الإرشادات

Read More

لماذا خلقَنا الله؟

هل يحتاج الله لمن يُحبه ولمن يعبده؟ وجود الحاجة يعني وجود النقص. إذا كانت عمليَّة الخلق هي لتأمين الشركة مع

Read More

CONTACT

WORKING HOURS

Join THE SOCIAL CIRCLE

Get updates on special events  & added information