يجد الكثير صعوبة في فهم مضمون سفر الرؤيا المليء بالرموز والصور المجازية. وما لا يساعد في هذا هو الإختلافات الكثيرة في التفسيرات والتآويلات، والتي يُبالغ البعض فيها مطلقين العنان للمخيلات والتركيبات، وكأن سفر الرؤيا هو فنجان قهوة في يد مُبَصِّرة موهوبة وخَلاَّقة.
بلا شك ليس سفر رؤيا يوحنا بالكتاب السهل لما فيه من مشاهد كثيرة تتعلق بالسماء والمستقبل والنهاية وبأسلوب رؤَي مُمَيز. لكن عندما نبتعد عن التقسيمات المُحَدَّدة سابقًا قبل قراءة السفر، ونبتعد عن الجزم المُسبق للترتيب الزمني لهذه الحوادث أو المشاهد، ونركِّز بالتفسير والتطبيق أولًا على الموضوع والهدف الأساسي، تتوضَّح الصورة أكثر ونجد الفائدة، لا بل الحاجة المُلحَّة لهذا الكتاب.
الفائدة
يوجد فائدة من معرفة ما لا تراه عيوننا على هذه الأرض. كما يوجد فائدة كبيرة من معرفة ما سينتظرنا في نهاية الزمن. حتى مع صعوبة السفر وكثرة الآراء المختلفة عنه، وجهة نظر الكتاب المقدس نفسه هي “هَا أَنَا آتِي سَرِيعاً. طُوبَى لِمَنْ يَحْفَظُ أَقْوَالَ نُبُوَّةِ هَذَا الْكِتَابِ” (رؤيا يوحنا 7:22).
مواعيد الرب دافع ومُحَفِّز لحياة القداسة. كتب الرسول بطرس وقال في سياق حديثه عن مجيء يوم الرب وزوال السماوات واحتراق الأرض “فَبِمَا أَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا تَنْحَلُّ، أَيَّ أُنَاسٍ يَجِبُ أَنْ تَكُونُوا أَنْتُمْ فِي سِيرَةٍ مُقَدَّسَةٍ وَتَقْوَى؟ مُنْتَظِرِينَ وَطَالِبِينَ سُرْعَةَ مَجِيءِ يَوْمِ الرَّبِّ”. إذن معرفة المستقبل والنهاية والحالة الأبديَّة ليست معلومات ثانويَّة غير مُؤثرة، بل هي حقائق لها مفاعيل عَمَليَّة تتعلَّق بالسيرة والتقوى.
كتب أيضًا الرسول بولس في رسالته إلى رومية تشجيع للمؤمنين مُذكرًا بالرجاء والتحرير الذي ينتظر لا الإنسان فقط، بل كُل الخليقة “لأَنَّ الْخَلِيقَةَ نَفْسَهَا أَيْضاً سَتُعْتَقُ مِنْ عُبُودِيَّةِ الْفَسَادِ إِلَى حُرِّيَّةِ مَجْدِ أَوْلاَدِ اللهِ” (رومية 12:8)، والنتيجة “وَلَكِنْ إِنْ كُنَّا نَرْجُو مَا لَسْنَا نَنْظُرُهُ فَإِنَّنَا نَتَوَقَّعُهُ بِالصَّبْرِ” (25).
ماذا رأى يوحنا؟
هل رأى يوحنا ما هو غريب ومدهش، أم رأى ما وعد به يسوع المسيح أتباعه وكنيسته! في الإصحاحات الأولى رأى يوحنا يسوع المسيح بمجده وبهائه يتمشى في وسط الكنائس كما وعد قبل صعوده “وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْر” (متى 20:28). رأى يوحنا الكنيسة في صراعها مع قوى الظُلمة مدعوة للجهاد والسهر بأمانة حتى تغلب وتملك مع المسيح. ألا تحتاج الكنيسة في وسط الإضطهاد الى الثقة بوجود المسيح معها؟ تحتاج الكنيسة وهي تواجه شتى أنواع التحديات والصعوبات إلى رسائل توجيهيَّة تُحذِّر وتَحِث على التمسك بالتعاليم والوصايا والتوبة المستمرَّة والصمود بشموخ إلى حين عودة الرئيس القائد.
في الإصحاحين الرابع والخامس رأى يوحنا ما يحدث في السماء. رأى العرش الحقيقي حيث السلطة والحكم النهائي على كل سلطة وحكم دنيوي ظاهر. الخروف المذبوح هو الأسد الحاكم، معبود السماء والأرض معًا، مستحق أن يأخذ كل الكرامة والمجد. رغم كل ما تمر به الكنيسة، ألا يؤكد هذا المشهد قول المسيح “فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ وَلَكِنْ ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ” (يوحنا 33:16).
بِدءًا من الإصحاح السادس نرى مشاهد لحروب كثيرة طاحنة في جميعها ينتصر الرب وأتقيائه على جميع الأعداء. إذا كانت هذه المشاهد تتبع ترتيب زمني متصاعد أم هي مشاهد مُتوازية لمعركة واحدة، كُل واحدة فيها تُبرز نواحي خاصة لمعركة المسيح والقديسين النهائية، فالنتيجة والهدف واحد “لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآب” (فيلبي 10:2-11). دينونة إبليس وأعوانه حتميَّة، أكانت شخصيات تاريخيَّة تعاقبت أو جديدة ستظهر وتغلب لفترة. الإنتقام لدماء عبيد الله سيكون مُدَوِّي. سينسكب غضب الله على فجور الناس بشكل رهيب ومُخيف. إن النهاية ستكون مُرعبة لأعداء صليب المسيح ومُفرِّحة لأتباع الخروف. هذا هو الإستنتاج الاكيد بناء على كل مدارس التفسير رغم إختلافاتها.
رأى يوحنا في الختام الحالة النهائية، رأى مُلك المسيح، دينونة الأموات، بحيرة النار، مَقَر من لن يسكن المدينة المقدسة في السماء الجديدة والأرض الجديدة. رأى ما كتب عنه سابقًا في رسالته الأولى “وَالْعَالَمُ يَمْضِي وَشَهْوَتُهُ، وَأَمَّا الَّذِي يَصْنَعُ مَشِيئَةَ اللهِ فَيَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ” (17:2).
كم تَصغُر التأثيرات السلبية حتى مع صعوبة الجزم في بعض التفاصيل الدقيقة أمام هذه الحقائق العظيمة التي نحتاج جميعًا أن لا نراها فقط، بل أن نحيا على رجائها. إن سفر الرؤيا هو رؤية الماضي والحاضر والمستقبل. إنه سفر الرجاء والأمل والإنتصار منذ الآن وإلى الأبد، إذ هو يَحِثُّنا على التمسُّك بثقتنا بصاحب الكلمة الأولى والأخيرة في هذا العالم “وَلَكِنَّنَا فِي هَذِهِ جَمِيعِهَا يَعْظُمُ انْتِصَارُنَا بِالَّذِي أَحَبَّنَا” (رومية 37:8).
نجاح رُغم الإخفاق
أثناء ثورة الإصلاح في إنجلترا، أصبح رئيس الأساقفة توماس كرانمر إنجيليًّا، وراح يعمل على إصلاح الكنائس. قُبض عليه وعُذّب ثلاث