أعطت معظم قوانين الإيمان المُصلحة العريقة في نصوصها مكانةً مهمةً لعقيدة الولادة الجديدة. يتحدث قانون إعتراف الإيمان في جنيف، الذي كُتب على أُسُس الإصلاح الجديدة سنة 1536 م، أن التجديد في يسوع (الولادة الجديدة) هو أن يولد الإنسان بطبيعة روحيَّة جديدة بروحه. أيضًا، تم تقديم الولادة الجديدة في قانون إعتراف إيمان الويستمنستر 1646 م أولًا، على أنها هي الدعوة الفعَّالة للمختارين. ثانيًا، هي عمل الروح في تقديس هؤلاء المدعوّين والمولودين. هي من تُزودهم بالإيمان، وتقودهم للتوبة، وتُمَكّنهم من القيام بالأعمال الصالحة، وتثبتهم بالنعمة حتى النهاية. بدوره، ينَصَّ قانون إعتراف الإيمان المعمداني 1689 م على أن الإنسان ميت بالذنوب والخطايا إلى أن يُحيا ويتجدَّد بالروح القدس، عِندها يُصبح قادرًا على تلبية الدعوة وقبول النعمة. بشيء من التبسيط، الولادة الجديدة في فكر الإصلاحيين هي الدعوة الفعَّالة أو النتيجة الأولى لها.
رحلة حياة روحيَّة
عندما أكل آدم من شجرة معرفة الخير والشرّ أخطأ تجاه الله ومات روحيًا (تك 2:17). سقط آدم الأول وسقطت البشريَّة معه (رو 5:12). بسبب ذلك لم تصبح البشرية مريضة أو ضعيفة، بل أصبح كُل البشر أمواتًا في الذنوب والخطايا (أفسس 1:2). لا يوجد أحد خارج هذه الدائرة (رو 11:3)، (مز 3:14). وحده الله يستطيع أن يبعث الحياة من جديد. فالإنسان بدون هذا العمل لا يستطيع تغير طبيعته ورغبته، كما يُعَلِّم الكتاب (إر 23:13). لذلك إنَّ الإيمان الحقيقي والتوبة الحقيقيَّة هما نتيجة هذه الولادة الجديدة (أع 18:11). من يعود ويجد الله هو من وجِدَ من الله قبلًا، “وُجِدْتُ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَطْلُبُونِي وَصِرْتُ ظَاهِراً لِلَّذِينَ لَمْ يَسْأَلُوا عَنِّي” (رو 20:10).
كتب البشير يوحنا أن يسوع المسيح قال لنقوديموس الشيخ، “إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله” (يو 3:3). وقد شدد يسوع المسيح على وجوب حصول الولادة الجديدة لنوال الحياة الأبدية اذ قال، “ينبغي أن تولدوا من فوق” (يو 3: 7). لم يكن المسيح يطلب من نيقوديموس أن يولد من جديد بل كان يشرح له كيف تتمّ هذه العمليَّة. كرّر الرسول بولس في كتاباته على أن الولادة الجديدة هي عملية خلق جديد، “وتتجدّدوا بروح ذهنكم. وتلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق” (أفس 4: 23 و24). كتب عنها أيضًأ في رسالته الثانية إلى كنيسة كورونثوس، “اذا ان كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت. هوذا الكل قد صار جديدا”(5: 17). ففي كُل مرة كان يُشدّد على أنها عمل المسيح الحصري.
عمل الله السيادي
في الولادة الجديدة لا يعمل الله عمل التغيير فقط، بل يعمل لفتح قلب الإنسان لقبول هذا العمل “وَلَكِنَّ الإِنْسَانَ الطَّبِيعِيَّ لاَ يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ اللهِ لأَنَّهُ عِنْدَهُ جَهَالَةٌ وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَعْرِفَهُ لأَنَّهُ إِنَّمَا يُحْكَمُ فِيهِ رُوحِيّاً.” (1 كور 14:2). فالإنجيل يبقى مكتومًا إلى أن يضيء المسيح، “وَلَكِنْ إِنْ كَانَ إِنْجِيلُنَا مَكْتُوماً، فَإِنَّمَا هُوَ مَكْتُومٌ فِي الْهَالِكِينَ، الَّذِينَ فِيهِمْ إِلَهُ هَذَا الدَّهْرِ قَدْ أَعْمَى أَذْهَانَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، لِئَلاَّ تُضِيءَ لَهُمْ إِنَارَةُ إِنْجِيلِ مَجْدِ الْمَسِيحِ، الَّذِي هُوَ صُورَةُ اللهِ” (2 كور 3:4-4).
لا يستطيع أن يتحرَّر أحد طالما هو تحت سيادة إبليس (2 تي 26:2) إلا عندما يتدخَّل من هو أقوى منه، أي يسوع المسيح وروحه القدوس (متى 29:12). فلكي نقبل علينا أن نسمع، ولكي نسمع علينا أن نحيا، ” لِمَاذَا لاَ تَفْهَمُونَ كلاَمِي؟ لأَنَّكُمْ لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَسْمَعُوا قَوْلِي. اَلَّذِي مِنَ اللَّهِ يَسْمَعُ كلاَمَ اللَّهِ. لِذَلِكَ أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَسْمَعُونَ لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ اللَّهِ.” (يوحنا 43:8، 47). وقبل أن يُحي الله الميت ويفتح قلبه وعقله وأذناه لا يمكن أن يحدث شيء، إذ كما قال يسوع “لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُقْبِلَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ يَجْتَذِبْهُ الآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ” (يوحنا 44:6)، “لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ يُعْطَ مِنْ أَبِي” (65:6).
الولادة الجديدة هي كُليًا عمل الله، بدون أي دور للإنسان. لذا هي لا تقاوم ولا إمكانيَّة لإبطال مفعولها. هنا نجد مركزيتها في إرساء القاعدة الصحيحة لسلسلة عقائد النعمة.
عمل الله الخفي
كيف يحيا مع الله الإنسان الميت روحيًا؟ عندما وصف يسوع هذه العمليَّة الروحيَّة العظيمة شبَّهها بعمل الريح. فقد أشار إلى إستقلاليتها وعدم إمكانيَّة تحديد أسبابها إلا بالعودة لقصده ومشيئته الصالحة “اَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ وَتَسْمَعُ صَوْتَهَا لَكِنَّكَ لاَ تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَأْتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ. هَكَذَا كُلُّ مَنْ وُلِدَ مِنَ الرُّوحِ” (يو 8:3). إنها حدث فوري يحصل بطريقة غير منظورة لكن نستطيع فقط أن نشاهد نتائجها المُتلاحقة مع مرور الوقت بحسب خصوصيَّة كل إنسان. إن أقرب ما يحدث من نتائج بعدها هو الإيمان. هذا جعل الكثير يظنّون مُخطئين أن الإيمان هو مُسبب النهضة الروحيَّة وإنتقال الإنسان من الموت إلى الحياة لأنه ظاهر للعيان بينما الولادة الروحيَّة خفيَّة. كتب واين جرودم عن الموضوع التالي “إن عمل الله هو في الحقيقة الذي يُعطينا القدرة الروحيَّة على التجاوب مع دعوته باللإيمان. الولادة الجديدة تأتي قبل الإيمان الخلاصي”. هذا المفهوم الكتابي يتماشى مع مفهوم سيادة الله في الخلاص والتبرير بالإيمان فقط اللذان هما ركنان أساسيَّان في فكر الإصلاح الإنجيلي. كتب توماس واتسن مُشدِّدًا على أنَّ الجزء الأساسي من الإيمان المسيحي يتعلَّق بالخليقة الجديدة “ما لم نصبح خلائق جديدة، لا قبول لواجباتنا الدينيّة.” رأى المُصلحون أن الولادة الجديدة تسبق كُل شيء. عندما رفضوا عقيدة التجديد بالمعموديّة، كان عليهم أن يجاوبوا عن كيفيّة حدوث هذا التجديد ولماذا هذا التجديد يسبق تطورًا آخر في الحياة الروحيَّة. كتب ستيفن شارنوك، “الولادة الجديدة ضروريّة لكل أجزاء النفس. لأنه قد حصل فساد شامل عند السقوط، الولادة الجديدة هي الجواب والحل”.
جوانب مُتعدِّدة
ميَّز كثير من المُصلحين الكبار بين الجوانب المُتعدّدة للولادة الجديدة مثل الهِداية، التحوّل، الإيمان والتوبة، وحتى التجديد المستمر في الحياة اليوميّة خلال المسيرة نحو القداسة العمليّة. لذلك، ليس في كل مرة تَحَدَّث فيها هؤلاء عن الولادة الجديدة كان المقصود في سياق الكلام الناحية الأولى والأساسيَّة فقط. فالجانب الأول من الولادة الجديدة كان واضحًا في كتاباتهم والمتعلق بعمل الروح الخاص للإحياء، لكن في مرات كثيرة أجادوا الشرح والتحليل عن الجوانب الأخرى التي تلي عمليَّة الإحياء الأول مُعتبرين أنها جزء من الولادة الجديدة بالكُليًّة. فلا يجوز أن نظنّ أنهم ناقضوا الناحية الأولى عندما تحدثوا عن دور الكلمة والتوبة وتحول الإنسان المستمر. مثلًا، عندما كتب الرسول بطرس “مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً، لاَ مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى، بِكَلِمَةِ اللهِ الْحَيَّةِ الْبَاقِيَةِ إِلَى الأَبَدِ.” (1 بط 23:1)، كان يشير إلى مرحلة التحول. بعد فتح القلب، تُسمع الدعوة من الخاطي، فتدخل الكلمة وتعمل عملها. في هذه المرحلة يتوضّح لنا دور البشارة وكلمة الله. يشرح جون فريم عن هذه الأبعاد فيقول، “الولادة الجديدة هي تعبير مجازي عن التجديد الروحي. وبما أنها تعبير مجازي، يمكن تطبيقها على مراحل مختلفة في حياة المفديين. في كتابات يوحنا وبولس، نجد أن الولادة الجديدة هي بشكل حاسم بداية الحياة الجديدة التي تَتِمّ قبل أي نمو في المسيح. بينما في كتابات بطرس ويعقوب، نجد أن التجديد له مفهوم أوسع يدلّ على عمليَّة النمو الروحي من خلال كلمة الله.” بناء على هذا نرى أنه عندما كتب جون كالفن “التجديد لا يحدث في لحظة واحدة أو في يومٍ واحدٍ أو في عامٍ واحدٍ بل من خلال عملية مستمرة”، كان يتكلَّم عن الجانب الأخر المُستمر، عن الإنسان الجديد الذي يتجدَّد للمعرفة حسب صورة خالقه (كو 10:3). هذا لا يناقض ما أكَّدَه بأماكن كثيرة أخرى أن التوبة والإيمان هما هبات من الله للإنسان وهو يحصل عليهما عند الولادة الجديدة إذ كتب “ومن أراد الله أن يختطفه من الموت، يُحييه بروح التجديد”. كتب ر. ك. سبرول، “الولادة الثانية هي نقطة البداية في حياتنا الروحيَّة. وهي تحدث بمبادرة إلهيَّة. هي عمل فوري يتمّ في الحال بسلطانه الإلهي، لكن إدراكنا بتجديدنا قد يكون تدريجيًا.” إنَّ معرفة كيف تعامل المُصلحون مع الجوانب المختلفة للولادة الجديدة يُجنبنا الكثير من سؤء الفهم.
نجاح رُغم الإخفاق
أثناء ثورة الإصلاح في إنجلترا، أصبح رئيس الأساقفة توماس كرانمر إنجيليًّا، وراح يعمل على إصلاح الكنائس. قُبض عليه وعُذّب ثلاث