ماذا يعني أن أكون مسيحيًّا؟

إنَّ الإنسان فاسد بطبيعته وقد تلوَّث قلبَه وفكرَه وسلوكه، وآثار فساده عبر التَّاريخ قديمة وطويلة. لم يمر الكثير من الأجيال حتَّى قام قايين وقتل أخاه هابيل. إذًا كُل محاولات الإنسان الدِّينيَّة، وحتَّى الصَّادقة منها، ستكون مُلوَّثة بتلوُّث طبيعته. فأساس المشكلة لا يكمُن في الزَّمان أو في الظُّروف أو في التَّعاليم المُتنوِّعة، بل في داخل الإنسان، في قلبه وطبيعته السَّاقطة. ولا حل للظُّلمة من دون النُّور، ولا مسيحيَّة بلا مسيح. والموت يجب أن يسبِق الحياة، ولا توبة قبل الاعتراف بالواقع الأليم والإيمان بالمُخلِّص الوحيد.
ولادة جديدة
تبدأ المسيحيَّة بعمليَّة جراحيَّة روحيَّة لتبديل القلب، حيث يولد الإنسان ولادة جديدة عندما يختبر الخلاص. ما قالَه يسوع لنيقوديمس الشيخ هو البداية، “الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللَّهِ” (يوحنا 3:3). هذه الولادة الرُّوحية الجديدة تشمل جميع الأمور، “إِذًا إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ. الأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ. هُوَذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيدًا” (2كورنثوس 17:5). ببساطة، لا يمكن للولادة الجديدة أن تتم عند المعموديَّة. وحتَّى الفرائض والطُّقوس ليس بإمكانها أن تُميتنا وتُحيينا مع المسيح، فقط الإيمان الواعي والمُدرِك لفداء المسيح ولعمل الكفَّارة على الصَّليب هو القادر أن يفعل هذا التَّغيير. فالولادة الجديدة هي عمل الرُّوح القدس، الَّذي لا يستطيع الإنسان أن يقوم به، “لاَ بِأَعْمَالٍ فِي بِرٍّ عَمِلْنَاهَا نَحْنُ، بَلْ بِمُقْتَضَى رَحْمَتِهِ خَلَّصَنَا بِغَسْلِ الْمِيلاَدِ الثَّانِي وَتَجْدِيدِ الرُّوحِ الْقُدُسِ” (تيطس 5:3). فالإيمان لا يُتوارث ولا يُفرض، بل إحدى علاماته اللافتة والواضحة هي التَّجاوب مع كلمة الرَّب، “شَاءَ فَوَلَدَنَا بِكَلِمَةِ الْحَقِّ” (يعقوب 18:1).
ولادة جديدة تعني انتماء جديد وولاء جديد. ولادة جديدة تعني بداية صراع وخلاف مع كل ما هو قديم، ومع كل مَن لا ينسجم مع هذه الحياة الجديدة. ولادة جديدة تعني العودة إلى المسيح الحي والعودة لعبادته بالحق وخدمته من كل القلب. إنَّها عودة الخروف الضَّال إلى حظيرة المسيح الصَّغيرة. عند إتمام هذه الولادة فقط، يُصبح حَمْل الصَّليب وإتِباع المسيح أمرًا طبيعيًّا. لأنَّ هذه الولادة هي بداية عمليَّة تحوُّل مُتتالية ومُتصاعدة، ولأنَّ الولادة الرُّوحية هي عمليَّة غير ظاهرة لنا على عكس التَّحوُّل والتَّغيير، يُعرَّف الخلاص عند الكثيرين بطُرُق مختلفة.
لأنَّ البعض يمزج بين هذه العمليَّة وبين ما يأتي مباشرة بعدها، يتحوَّل مفهوم الخلاص تدريجيًّا من عمل إلهي بالكامل إلى عمل إلهي مَسبُوق بعمل بشريٍّ. يشرح اللاهوتي الكبير هودج الفرق بين عمل الله وعمل الإنسان في الخلاص فيقول، “الولادة هي عمل الله، التَّحوُّل هو عَمَلنا. الولادة هي عمليَّة زرع مبدأ حياة جديد، التَّحوُّل هو ممارسة هذا المبدأ. الولادة هي عمل واحد كامل بحد ذاته لا يتكرَّر، التَّحوُّل هو بداية حياة قداسة مُتَسلسِلة لا تنتهي. “اُجْذُبْنِي وَرَاءَكَ فَنَجْرِيَ” (نشيد الأنشاد 4:1).” هذا ما يُفسِّر سبب محاولات الإنسان الكثيرة الفاشلة للتَّغيُّر. فالبداية تحوي كل أسرار النِّهاية. وبالإضافة إلى السُّؤال “ماذا يعني أن أكون مسيحيًّا؟”، يُطرح سؤال جديد هو، كيف أُصبح مسيحيًّا؟ أو مَن يستطيع أن يجعلني مسيحيًّا حقيقيًّا؟
سيادة جديدة
قال يسوع لليهود أنَّهم عبيد للَّذي يُطيعونه، فهُم كانوا عبيد إبليس والخطيَّة. وهنا يكمُن معنى الحريَّة الَّتي يَعد بها الرَّب أولاده. فعبوديَّة المال، ورضى الناس، وأمثال ذلك هي من أصعب أنواع العبوديَّة. ومَن يدفع ثمنه المسيح، لا يسود عليه شيء أو أحد سوى المسيح، “لأَنَّكُمْ قَدِ اشْتُرِيتُمْ بِثَمَنٍ. فَمَجِّدُوا اللهَ فِي أَجْسَادِكُمْ وَفِي أَرْوَاحِكُمُ الَّتِي هِيَ لِلَّهِ.” (1كورنثوس 20:6). المولود الجديد يعني صاحب هويَّة جديدة. هو غريب ونزيل في أرض يحكمُها الشَّر. وهذا المولود هو مُخصَّص ومُكرَّس للرَّب الَّذي اشتراه. صحيح أنَّه لا يملك الكثير هنا، لكنَّه غنيٌّ في المسيح ووارث معه. عندما يمتحن الإنسان المُخلِص والصَّادق دوافعه وأولويَّاته ومدى حبِّه لوصايا الرَّب وحفظه لها، عندها يستطيع أن يُدرك إن كان قد حصل على الحياة الجديدة مع المسيح. إذا تمَّت هذه الولادة، أين وماذا يأكل هذا الطفل؟ وعلى ماذا يتغذَّى لكي يُصبح شخصًا ناضجًا؟ كيف يعبد الرَّب ويخدمه ويحبُّه من كل قلبه ونفسه وفكره؟ هل الرُّوح القدس السَّاكن فيه، هو غالِب ومُثمِر؟ ليس صعبًا على المولود الجديد أن يُجيب عن هذه الأسئلة أبدًا، لكن من المستحيل، لمَن ليس له شركة حقيقيَّة مع المسيح، أن يكون قد اختَبر الولادة الجديدة. الكبرياء هي أبشع الخطايا بحسب تصنيف الكتاب المقدَّس. مَن يتكبَّر ويتجَبَّر ويُصِر على أن يكون مسيحيًّا على هواه، سيخجل ويخسر، وسيسمع صوت المسيح في ذلك اليوم العظيم والمُخيف يقول له، “لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ يَا رَبُّ يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. بَلِ الَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَات” (متى 21:7).
قوَّة جديدة
إنَّ قوَّة الرُّوح القدس ظاهرة في عمل النِّعمة المُخلِّصة. ظَنَّ سيمون السَّاحر في زمن الرُّسُل أنَّه قد يستطيع أن يشتري قوَّة الرُّوح بالمال، فَفشِل. في مناسبة أخرى ظَنَّ سبعة بنين لرجل يهودي، رئيس كهنة أنَّه بإمكانهم أن يمتلكوا قوَّة بولس الرَّسول على الأرواح الشرِّيرة عبر استخدام إسم يسوع كما فَعلَ هو، فكانت النَّتيجة أنَّهم تعرَّوا وتجرَّحوا. يعطي الرَّب الرُّوح القدس للَّذين يطيعونه. والَّذي يمتلك الرُّوح القدس، بل يمتلكه الروح القدس، يمتلك القوَّة والحق. قوَّة المواجهة والشهادة والسُّلوك بالقداسة، “َلكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْكُمْ وَتَكُونُونَ لِي شُهُودًا فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ” (أعمال الرسل 8:1).
مهما كان الإنسان ومهما ارتكب من شرور ومعاصٍ، فإن قوة الروح القدس هذه نفسها تستطيع أن تُخلِّصه وتُبرِّره وتجعله يسلك كاملًا مع الإله. يوجد رجاء لكل إنسان، ويوجد طمأنينة وأمان تحت دم المسيح، ليس لهذا العالم فقط، بل لكل الأبديَّة. رغم أنَّ المسيحيَّة الحقَّة قد تكون غير معروفة عند الكثيرين، لكنَّها تبقى كما هي بالحق، قصَّة حب إله عظيم لبشر ساقطين. قد تكون المسيحيَّة مهزومة عند البعض، وقد تكون قوَّة قيامة وحياة وشهادة لأعضاء كثيرين مُتِّحدين بالرَّأس الواحد الَّذي هو يسوع المسيح.
إختبار الخلاص
المسيحيَّة ليست خارطة طريق تَصِلُ بمَن يسْلُكُها بالنِّهاية إلى الخلاص. فاختبار الولادة الجديدة، والسِّيادة الجديدة، والقوَّة الجديدة هو اختبار الخلاص الَّذي أعَدَّهُ وأكْمَلَهُ الرَّب يسوع وحده على الصَّليب في الماضي البعيد. هذا الخلاص الَّذي تَمَّ، هو مُقدَّم مجانًا لكُل مَن يؤمن. وقد تبرهن سابقًا بأن لا أحد يستطيع أن يشتري هذا الخلاص بأعمال صالحة مهما كانت عظيمة، ولا أحد يستطيع أن يبيعَهُ بشروط مُعيَّنة مهما كانت سامية أو تَقَويَّة. إختبار الخلاص هو اختبار، وليس عَمَلًا أو جهْدًا أو طريقًا أو مُهمَّة، إنَّه اختبار النِّعمة المجَّانيَّة، وبداية رحلة أبديَّة ثابتة باتِّجاه الموطن النِّهائي السَّماوي. ولأنَّ الرب هو الذي عمل الخلاص، من البداية وحتَّى النِّهاية، “لِلرَّبِّ الْخَلاَصُ” (يونان 9:2)، فاختبار الخلاص يصبح عبارة عن قبول هذا العمل بالإيمان فقط، والعيش بحسب هذا الإيمان المُرفق بالتَّأكيد والثقة والسَّلام مُنذُ اللَّحظات الأولى له. هو اختبار كُل إنسان آمن بالرَّب يسوع المسيح وبعمله الكفَّاري البديلي فتصَالَح مع الله وخَلُصَ من الغضب الآتي ومن عقاب الخطيَّة. هو خلاص من الدَّينونة الرَّهيبة وتأكيد الحصول على الحياة الأبديَّة مع المسيح على الأقل بشهادتَين. واحدة من الدَّاخل، بواسطة الرُّوح القدس الَّذي يشهد لنا أنَّنا صرنا أولاد الله، والثانية من الخارج، بواسطة السُّلوك الجديد المُحرَّر والمُقدَّس الَّذي يشهد عن الإيمان الحي.
إن كان الإنسان لا يستطيع أن يُعبِّر عن هذا الاختبار الشخصي الذي هو بهذا الحجم وهذا التَّأثير، فهذا يعني أنَّه لم يختبرْه بعد. قد نُخطئ في تقييم وتحليل وتقدير أمور كثيرة قد تكون كِلفتها بسيطة نسبيًّا، وغالبًا ما يمكن تعويضها. لكن، أن نَخدع نفوسنا وندَّعي اختبار ما لا نملكه، على مستوى اختبار الخلاص واختبار المسيحيَّة الحقيقيَّة، له عواقب أبديَّة مُخيفة وكارثيَّة

Share the Post:

other articles

نجاح رُغم الإخفاق

أثناء ثورة الإصلاح في إنجلترا، أصبح رئيس الأساقفة توماس كرانمر إنجيليًّا، وراح يعمل على إصلاح الكنائس. قُبض عليه وعُذّب ثلاث

Read More

أمراض القلب

تُصَنَّف الكثير من الأمراض، التي ليست عُضويَّة في طبيعتها، على أنها “نفسيَّة”، فتُعالج خطأً بالوسائل الطُبيَّة عبر الأدوية أو الإرشادات

Read More

لماذا خلقَنا الله؟

هل يحتاج الله لمن يُحبه ولمن يعبده؟ وجود الحاجة يعني وجود النقص. إذا كانت عمليَّة الخلق هي لتأمين الشركة مع

Read More

CONTACT

WORKING HOURS

Join THE SOCIAL CIRCLE

Get updates on special events  & added information