ينظر البعض إلى عقيدة الإختيار على أنَّها عقيدة تدعو إلى التشكيك في عدالة الله وصلاحه، إذ كيف ولماذا يختار الله البعض ويرفض البعض الآخر! لكن حتى يَصمُد هذا الإستنتاج يجب أن يتضمَّن بُرهانًا أن اختيار الله كان على أُسُس ظالمة أو اعتباطيَّة. لا يستطيع أحد أن يأتي بأي دليل على أن اختيار الله مَسَّ صلاحه وعدله، إذ لا أحد يَملِك مُعطياته. لا يمكن رفض المبدأ بناءً على فَرضيّة تتعلَّق بكيفيَّة مُمَارسَته. إعتبار أنَّه إذا حصل سيحصل على أُسس ظالمة، هو حُكم بناء على المجهول.
أولًا، إن الكلام عن موضوع الإختيار والبحث في معانيه ضروري لأنه يملأ صفحات الكتاب المقدس. لا يمكن أن نتجاهل أو نسَخِّف الموضوع من دون التخلّي عن المبدأ الذي يقول ان الكتاب المقدس وحدَهُ وكُلَهُ هو دستور المؤمن المسيحي.
ثانيًا، يجب أن نَنظر إلى عقيدة الإختيار على أنَّها ضروريَّة لإظهار طبيعة الله المُحب، لأنَّ لولاها لما خَلُصَ أحد. فلو لم يُعطِ الرب البعض، بنعمته التي لا يستحقها أحد، القُدرة على التوبة والإيمان، لا يخلُص أحد. فهل هلاك الجميع، (كما كان سيكون) لولا الإختيار، أفضل لصورة الله من خلاص البعض بالنعمة والرحمة!؟ إذا عَمِلَ الله معروفًا وإحسانًا مع أحد، هل يكون قد ظلم الآخرين؟ الموضوع أصعب من ذلك لكن هذه البداية مهمة.
ثالثًا، لا يجب دراسة موضوع الإختيار من زاوية الإنسان فقط، بل علينا أن ندرك ارتباط إختيار الله بالعهد الأبدي بين الآب والإبن “وَهَذِهِ مَشِيئَةُ الآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي: أَنَّ كُلَّ مَا أَعْطَانِي لاَ أُتْلِفُ مِنْهُ شَيْئاً بَلْ أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ” (يوحنا 39:6)، “مِنْ أَجْلِهِمْ أَنَا أَسْأَلُ. لَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ الْعَالَمِ بَلْ مِنْ أَجْلِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي لأَنَّهُمْ لَكَ” (يوحنا 9:17).
المُبادرة الأولى
لا أحد يُنكر وجود الحقيقتين اللتين تؤكدان أن الرب اختارنا وأننا نحن بدورنا أيضًا اخترناه وتبعناه وآمنَّا به. الخلاف والصعوبة، عند طرح الموضوع، هو بالتحديد، على ماذا إعتمد الرب عند اختياره.
هل كان اختياره هو الذي سَبَّبَ وولَّدَ وحرَّرَ بعض البشر لكي يستطيعوا أن يأتوا إليه، أي اختيار ليس مبني على شيء يقوم به الإنسان وبالتالي مبني على مشيئته ونعمته فقط، أو هذا الاختيار مبني على معرفته المُسبقة بتوبة وإيمان بعض البشر في المُستقبل؟ مَن كان المُبادر والمُسبِب لاختيار الآخر؟ هل يختار الرب حسب قصده ومشيئته فقط، أو يختار حسب معرفته لما سيقوم به الإنسان؟ ببساطة لنبدأ بماذا تقول كلمة الرب عن هذه الناحية بالتحديد (من سَبَقَ أو من سَبَّبَ) قبل أي تحليل أو تأكيد.
“لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُقْبِلَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ يَجْتَذِبْهُ الآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي” (يوحنا 44:6).
“لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِي إِلَيَّ إِنْ لَمْ يُعْطَ مِنْ أَبِي” (يوحنا 65:6).
“لَيْسَ أَنْتُمُ اخْتَرْتُمُونِي بَلْ أَنَا اخْتَرْتُكُمْ وَأَقَمْتُكُمْ لِتَذْهَبُوا وَتَأْتُوا بِثَمَرٍ” (يوحنا 16:15).
“وَالَّذِينَ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ فَهَؤُلاَءِ دَعَاهُمْ أَيْضاً” (رومية 30:8).
“أَنَّهُ وَهُمَا لَمْ يُولَدَا بَعْدُ وَلاَ فَعَلاَ خَيْراً أَوْ شَرّاً لِكَيْ يَثْبُتَ قَصْدُ اللهِ حَسَبَ الِاخْتِيَارِ لَيْسَ مِنَ الأَعْمَالِ بَلْ مِنَ الَّذِي يَدْعُو” (رومية 11:9).
“فَإِذاً لَيْسَ لِمَنْ يَشَاءُ وَلاَ لِمَنْ يَسْعَى بَلْ لِلَّهِ الَّذِي يَرْحَمُ” (رومية 16:9).
“كَمَا اخْتَارَنَا فِيهِ قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ… إِذْ سَبَقَ فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لِنَفْسِهِ، حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ” (أفسس 4:1 و5).
“…أَنَّ اللهَ اخْتَارَكُمْ مِنَ الْبَدْءِ لِلْخَلاَصِ، بِتَقْدِيسِ الرُّوحِ وَتَصْدِيقِ الْحَقِّ” (2تسالونيكي 13:2).
“الَّذِي خَلَّصَنَا وَدَعَانَا دَعْوَةً مُقَدَّسَةً، لاَ بِمُقْتَضَى أَعْمَالِنَا، بَلْ بِمُقْتَضَى الْقَصْدِ وَالنِّعْمَةِ الَّتِي أُعْطِيَتْ لَنَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ قَبْلَ الأَزْمِنَةِ الأَزَلِيَّةِ” (2تيموثاوس 9:1).
بالإضافة إلى كل هذا، أليس الرب يسوع هو الذي سبَقَ وأحبّنا وتجسَّد لفدائنا ونحن بعد خطاة، ولولا أنه فتح عيوننا لمعرفته وقلوبنا لفهم وقبول كلمته الحيَّة، ألم نكن بعد جميعًا أمواتًا في الذنوب والخطايا! قبل أن تهب الريح، لا رجاء ولا طبيعة ترغب أو تحب كل ما يتعلق بالله. هذه الريح لا تعمل بحسب مشيئتنا بل بحسب سلطانه “اَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ وَتَسْمَعُ صَوْتَهَا لَكِنَّكَ لاَ تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَأْتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ.” (يوحنا 8:3).
أساسيَّات
أولًا، الله ليس مُجبرًا على خلاص أحد، ولو دِين الجميع بدون إستثناء، يبقى هو كامل الصلاح والقداسة. إنَّ هلاك الناس الفجَّار هو ما يستحقّونه بسسب خطيتهم وتعدِّيهم وخياراتهم الشخصيَّة ومسؤوليتهم الكاملة عن أعمالهم. جميع البشر خطاة منذ الولادة: “زَاغَ الأَشْرَارُ مِنَ الرَّحِمِ. ضَلُّوا مِنَ الْبَطْنِ” (المزمور 3:58). جميع البشر خطاة بالممارسة: “مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ وَهَكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ” (رومية 12:5). وبما أن أجرة الخطيَّة هي موت، لا أحد يستحق الخلاص. إذًا لا مُشكلة أدبيَّة في عدم اختيار الجميع.
ثانيًا، الإنسان بعيدًا عن الله هو في حالة فساد كُلِّي، أي فاسد السلوك والقلب والإرادة. وَصَفَ المسيح الناس في هذه الحالة بالاموات. لذلك بدون مُبادرة أولى وتَدَخُّل مباشر وفعَّال من قبل الرب، لا يستطيع الإنسان أن يُغيِّر شيئًا من واقع عبوديَّة إرادته ورغباته. فالقصَّة تبدأ من عند الله، “لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُقْبِلَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ يَجْتَذِبْهُ الآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي” (يوحنا 44:6)، “وَلَكِنَّ الإِنْسَانَ الطَّبِيعِيَّ لاَ يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ اللهِ لأَنَّهُ عِنْدَهُ جَهَالَةٌ وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَعْرِفَهُ لأَنَّهُ إِنَّمَا يُحْكَمُ فِيهِ رُوحِيّاً” (1كورونثوس 14:2). فالإختيار هو ليس تحديد من هو أفضل وأصلح، إذ لا يوجد، بل هو إختيار بحسب النعمة لإقتناء الخلاص “أَنَّ اللهَ اخْتَارَكُمْ مِنَ الْبَدْءِ لِلْخَلاَصِ، بِتَقْدِيسِ الرُّوحِ وَتَصْدِيقِ الْحَقِّ” (2تسالونيكي 13:2).
ثالثًا، اختيار الله هو غير مشروط لأنَّه لو كان عكس ذلك لما خَلُصَ أحد. يقول الرسول بولس بوضوح:
“الَّذِي خَلَّصَنَا وَدَعَانَا دَعْوَةً مُقَدَّسَةً، لاَ بِمُقْتَضَى أَعْمَالِنَا، بَلْ بِمُقْتَضَى الْقَصْدِ وَالنِّعْمَةِ الَّتِي أُعْطِيَتْ لَنَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ قَبْلَ الأَزْمِنَةِ الأَزَلِيَّةِ” (2تيموثاوس 9:1). إنّ رسالة أفسس واضحة أيضًا “إِذْ سَبَقَ فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لِنَفْسِهِ، حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ” (أفسس 5:1).
إذن يُعيِّن ويختار الله لا بمُقتضى أي عمل من جانب الإنسان، بل بمُقتضى قصده ونعمته ومشيئته المُرتبطة فيه وحده. لا شيء يضمن العدالة والصلاح أكثر من قصد الرب ومشيئته. فِدائنا مبني على محبته وغنى نعمته، لا على أساس موقف سابق مِنَّا، “الَّذِي فِيهِ لَنَا الْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ الْخَطَايَا، حَسَبَ غِنَى نِعْمَتِهِ” (أفسس 7:1). فالاختيار إمَّا أن يكون بحسب عمل ما، أو يكون بحسب النعمة “التي تعني ما لا نستحق”، وهذه الأخيرة تملأ صفحات الكتاب المقدَّس، “فَكَذَلِكَ فِي الزَّمَانِ الْحَاضِرِ أَيْضاً قَدْ حَصَلَتْ بَقِيَّةٌ حَسَبَ اخْتِيَارِ النِّعْمَةِ” (رومية 5:11).
رابعًا، الإيمان هو عطيَّة إلهية رغم ممارستنا نحن البشر له. عند الولادة الجديدة تتحرَّر الإرادة ونحصل على العطيَّة، “لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ” (أفسس 8:2)، “لأَنَّهُ قَدْ وُهِبَ لَكُمْ لأَجْلِ الْمَسِيحِ لاَ أَنْ تُؤْمِنُوا بِهِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضاً أَنْ تَتَأَلَّمُوا لأَجْلِهِ” (فيلبي 29:1)، “وَآمَنَ جَمِيعُ الَّذِينَ كَانُوا مُعَيَّنِينَ لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ” (أعمال 48:13). الله هو الذي يُعطي الميت الرغبة للخلاص، والقوَّة لطلبه،
“وَلَكِنْ لَيْسَ كَالْخَطِيَّةِ هَكَذَا أَيْضاً الْهِبَةُ. لأَنَّهُ إِنْ كَانَ بِخَطِيَّةِ وَاحِدٍ مَاتَ الْكَثِيرُونَ فَبِالأَوْلَى كَثِيراً نِعْمَةُ اللهِ وَالْعَطِيَّةُ بِالنِّعْمَةِ الَّتِي بِالإِنْسَانِ الْوَاحِدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ قَدِ ازْدَادَتْ لِلْكَثِيرِينَ” (رومية 15:5). الخطيَّة مُقابل العطيَّة، والأُجرة مُقابل الهبة، “لأَنَّ أُجْرَةَ الْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ وَأَمَّا هِبَةُ اللهِ فَهِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا” (رومية 23:6).
خامسًا، إن اختيار الله ليس اختيارًا عشوائيًّا اعتباطيًا بالمرّة. فجهلنا لفكر الله وإتّكالنا على مشيئته الصالحة وحكمته الفائقة في الإختيار يجعلان من هذا الإختيار سبب طمأنينة وليس سبب شك. يقول سام ستورمز في كتاب “مختارين للحياة” ما يلي: “لنتأكد من فهمنا لطبيعة إختيار الله بسلطانه. الاختيار هو اختيار من بين آخرين. إنّ إختيار الله المُحب لم يكن بالصدفة، ولا بدون تنظيم، وكأن لا شيء تَحَكَّمَ بقراره، بل هو اختيار مبني على دراسة وحساب وقصد من قبل الله.”
بناء على هذه الأساسيَّات، التي تشتمل على تقييم صحيح لوضع الإنسان بعد السقوط، يُبنى مفهوم الإختيار.
اختيار النعمة
ليست القضية هي حاجة الإنسان للنعمة إذ الجميع يعترف بذلك، إنَّما القضية هي بُعد ومدى هذه الحاجة. يوجد فرق بين النعمة التي تجعل الخلاص مُحْتَمَلًا والنعمة التي تجعل الخلاص حَتْميًّا. الله وحده هو صاحب المجد في عمل الخلق وعمل الفداء.
بعد أن وصف الرسول بولس في الرسالة إلى أهل أفسس حالة البشر جميعًا بالأموات بالذنوب والخطايا وأبناء الغضب، شرح عن كيفيّة حصول الخلاص وعلى أي أساس قام الربّ بذلك: “لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْكُم هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ. لَيْسَ مِنْ أَعْمَالٍ كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ” (أفسس 8:2 و9).
لا يستطيع الميت أن يُضيف أي عمل على الخلاص الذي صُنع بحسب النعمة المجانيَّة الغنية. هذا هو سبب التشديد على مبدأ “العطيّة” والتأكيد على أنه “ليس من أعمالٍ”. هذا يزيل أي احتمال لإدخال أي دور للإنسان في هذا العمل الكفاري العظيم. الخلاص بالنعمة فقط يعني عدم وجود ما يفتخر به الإنسان في خلاصه إلا مشيئة الله ونعمته. كل ما أبداه الإنسان من إيجابية وطاعة لدعوة الإنجيل بالإيمان والتوبة والثمر الروحي هو نتيجة عمل هذه النعمة فقط وتجاوبه معها.
إنّ عدم قدرة الإنسان على خلاص نفسه لا تعني أن وعيَه وإرادته لا يعملان. إنه يفكِّر ويختار ويميزّ بين الصحّ والخطأ، لكن بتأثير طبيعته الخاطئة. لذلك هو لا يأتي إلّا بقرارات سيِّئة تُحب وتُفضِّل الشرّ، مُنسجمة ومُعبّرة عن واقع طبيعته. لكن هبة الله، أي نعمته فقط، تستطيع أن تتفوَّق على هذه المشكلة.
حريَّة الإنسان
حريَّة الإنسان محدودة، مُلوَّثة ومُستعبدة لدرجة أن الناس البعيدين عن الله كما ذكرنا يُوصفون في الرسالة إلى أهل أفسس بالأموات. كتب يوحنا داربي في رسالة إلى صديق له عن هذا الموضوع يقول فيها: “إذا جاء المسيح ليُخلِّص ما قد هَلَك، لا مكان لحريَّة الإرادة… تُعَلِّم المسيحيَّة أنّ موت الإنسان القديم وإدانته العادلة، ثم الفداء بالمسيح، والحياة الجديدة، الحياة الأبديَّة، تأتي من السماء بشخصه، وتصل إلينا به بواسطة الكلمة… الإرادة الحُرَّة هي حالة من الخطيَّة”
يشرح جون كالفن عن كيف أن الإنسان يُخطئ بالضرورة لكن من دون إكراه فيقول: “بسبب عبوديَّة الخطيَّة التي تُبقي الإرادة مقيّدة، لا تقدر هذه الأخيرة أن تتقدَّم نحو الصلاح، فكم بالحري أن تطبِّقه! فحركة من هذا النوع هي بداية التحوّل نحو الله الذي يعزوه الكتاب المقدس بالكامل إلى نعمة الله.”
باختصار، الإنسان حرّ، وهو حرّ بأن يختار ما يريد، لكن إرادته تتماشى مع طبيعته الساقطة ورغباته الفاسدة.
عمل إلهي صرف
الله هو المُبادر في عمليَّة الخلاص، وبالإضافة إلى أنه هو الزارع والساقي والمُنمِّي لكلمة الله الحيَّة التي تلد الإنسان بقوة الروح القدس، هو أيضًا من أعَدَّ التُربة الصالحة لاستقبال هذا الزرع. هكذا يكون الخلاص هو من الرب، من البداية حتى النهاية. إذا تواضع الإنسان يرى بوضوح عدم قدرته على فعل شيء، وإذا تكبَّر تزداد الرغبة بان يعطي نفسه بعض الشرف في خلاص نفسه. إذا تواضع يفتخر باختيار النعمة، وإذا تكبَّر يفتخر بحريَّة اختياره هو.
لا يوجد أي عمل من قِبَل الإنسان يُعَدّ جزءًا من عملية الخلاص نفسها. هكذا شرح بوضوح الرسول بولس في رسالة رومية والفصل الرابع عندما أخذ إبراهيم مثالًا لهذا وأكَّد أنه تبرَّر لا لأي عمل بل فقط بسبب إيمانه: “أَمَّا الَّذِي يَعْمَلُ فَلاَ تُحْسَبُ لَهُ الأُجْرَةُ عَلَى سَبِيلِ نِعْمَةٍ بَلْ عَلَى سَبِيلِ دَيْنٍ. وَأَمَّا الَّذِي لاَ يَعْمَلُ وَلَكِنْ يُؤْمِنُ بِالَّذِي يُبَرِّرُ الْفَاجِرَ فَإِيمانُهُ يُحْسَبُ لَهُ بِرّاً” (4:4). المعادلة هنا واضحة وهي، إمَّا نعمة أو دَيْن. حُسب ابراهيم بارًّا لأنه آمن وليس بسبب أي عمل. وفي الرسالة نفسها يضيف معادلة مشابهة وهي، إمَّا نعمة أو أعمال “فَإِنْ كَانَ بِالنِّعْمَةِ فَلَيْسَ بَعْدُ بِالأَعْمَالِ وَإِلاَّ فَلَيْسَتِ النِّعْمَةُ بَعْدُ نِعْمَةً. وَإِنْ كَانَ بِالأَعْمَالِ فَلَيْسَ بَعْدُ نِعْمَةً” (رومية 6:11). ببساطة لا شريك للنعمة إذا أريد لها أن تكون نعمة.
الاختيار ومعرفة الله المُسبَقة
لا يمكن فصل الله وأعماله عن كُل صفاته بالتأكيد. فعندما يختار الله، بالطبع يكون عَالِمًا بكل خيارات البشر وسيرة حياتهم. لكن السؤال هو: هل بناء على هذه المعرفة إختار الله أم أنَّ إختياره كان الفِعل وليس ردة الفِعل؟ تقول الآية في رسالة رومية: “لأَنَّ الَّذِينَ سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ” (29:8). هل هذه المعرفة هي معرفة معلومات سابقة للأحداث أم شيء أكثر؟ يقول الله في سفر عاموس النبي: “إِيَّاكُمْ فَقَطْ عَرَفْتُ مِنْ جَمِيعِ قَبَائِلِ الأَرْضِ لِذَلِكَ أُعَاقِبُكُمْ عَلَى جَمِيعِ ذُنُوبِكُمْ” (2:3). هذه المعرفة تُشير إلى العلاقة الحميمة المبنيَّة على المحبة. قال الله عن ابراهيم أب المؤمنين: “لانِّي عَرَفْتُهُ لِكَيْ يُوصِيَ بَنِيهِ وَبَيْتَهُ مِنْ بَعْدِهِ انْ يَحْفَظُوا طَرِيقَ الرَّبِّ” (تكوين 19:18). هذه المعرفة وهذه المحبة وهذا الإختيار هو ما يُحدث تغيرًا في الإنسان وليس العكس. يقول جيمس بويس: “معرفة الله المُسبقة تعني أن فكر الله هو مصدر الخلاص. أن تعرف، بالمفهوم الكتابي، هو أن تُحب، المعرفة المُسبقة هي المحبة المُسبقة.”
أعظم قصَّة حب
الاختيار على أساس النعمة هو أحد ركائز قصة الحبّ العظيمة. موت المسيح لأجل أحبائه بيَّن نوعيَّة هذه المحبة إذ وُجدت قبل الإيمان والتوبة، “وَلَكِنَّ اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا” (رومية 8:5). قطع الله عهدًا ينبعُ حُبًا، عهدًا أبديًّا لا يتغيَّر. يبدأ سفر ملاخي النبي بهذه الكلمات القليلة لكن العميقة والمُعبِرة في زمن الهيبة المفقودة والذبائح المُعيبة، “أَحْبَبْتُكُمْ قَالَ الرَّبُّ. وَقُلْتُمْ: بِمَا أَحْبَبْتَنَا؟ أَلَيْسَ عِيسُو أَخاً لِيَعْقُوبَ يَقُولُ الرَّبُّ وَأَحْبَبْتُ يَعْقُوبَ” (ملاخي 2:1). بدون قصة الحب العجيب والفريد والخاص، لن ندرك أبعاد قصّة الصليب وقصّة الإنسان مع الله بشكل عام حتى أن الإنجيل يُشدِّد على انَّ الله إختارنا قبل تأسيس العالم، وأحبنا محبة أبديَّة، وأحبّنا أولًا. فالمحبة بهذا الشكل والمضمون مُختلفة عن المحبة المشروطة. هذه المحبة هي المُبادِرة وهي المُغيِّرة وهي مصدر ومُسبِّب محبتنا وإيماننا بالمسيح “نَحْنُ نُحِبُّهُ لأَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا أَوَّلاً” (1يوحنا 19:4). المحبة من دون عقيدة الإختيار ومن دون مفهوم النعمة المُخلِّصة تختلف عن المحبة الفائقة التي يتحدَّث عنها الكتاب المقدَّس: “فِي هَذَا هِيَ الْمَحَبَّةُ: لَيْسَ أَنَّنَا نَحْنُ أَحْبَبْنَا اللهَ، بَلْ أَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا، وَأَرْسَلَ ابْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا” (1يوحنا 10:4).
فالمسيح اشترانا بدمه وهو على الصليب. لقد دفع الثمن بالكامل وإنتصر. لذلك أعلن بالنهاية أنَّه أكْمَل العمل، عمل الخلاص وليس فتح الباب لإمكانيَّة الخلاص التي لو كانت كذلك تعني أنَّه كان بالإمكان أن يفشل. بدون عقيدة الإختيار لا يكون عهد المحبة على المستوى الأعظم والأعجب، “لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ” (يوحنا 13:15).
مجد الله، أم مجد الناس
ببساطة مَن اختار مَن؟ قال يسوع لتلاميذه: “لَيْسَ أَنْتُمُ اخْتَرْتُمُونِي بَلْ أَنَا اخْتَرْتُكُمْ” (يوحنا 16:15). لمن يعود الفضل؟ الهدف الأول من خلق الإنسان ومن خلاصه هو مجد الله، “وَلِكَيْ يُبَيِّنَ غِنَى مَجْدِهِ عَلَى آنِيَةِ رَحْمَةٍ قَدْ سَبَقَ فَأَعَدَّهَا لِلْمَجْدِ” (رومية 23:9)، “بِكُلِّ مَنْ دُعِيَ بِاسْمِي وَلِمَجْدِي خَلَقْتُهُ وَجَبَلْتُهُ وَصَنَعْتُهُ” (إشعياء 7:43). الخلاص هو خلاص الله مُنفردًا وليس خلاص الله بالتعاون والتجاوب مع الإنسان. يأتي تجاوب الإنسان والجهد والعمل نتيجةً لخلاص الله وللخليقة الجديدة التي يصنعها الله وحده. لا مجال للافتخار إلاّ بالرب ولا مدح إلاّ لمجد نعمته.
ضمان وراحة
بالإضافة لما ذُكر، تبقى عقيدة الإختيار مصدرًا كبيرًا للراحة والطمأنينة. فبعد أن تُولِّد الشُكر والإمتنان لنعمة الله ومراحمه، تملأ القلب سلامًا وراحة في عالم يَضُج بالتحديَّات والمُقاومات والهزائم.
عندما نَتَذكَّر إختيار الله لنا نَتَيَقَّن أنَّ حُبَّه لن يتوقف. فهو لم يبدأ أصلًا على أساس إستحقاقنا ولن يستمر على هذا الأساس كذلك. يقول الكتاب: “لأَنَّكَ أَنْتَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ. إِيَّاكَ قَدِ اخْتَارَ الرَّبُّ إِلهُكَ لِتَكُونَ لهُ شَعْباً أَخَصَّ مِنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الذِينَ عَلى وَجْهِ الأَرْضِ ليْسَ مِنْ كَوْنِكُمْ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ الشُّعُوبِ التَصَقَ الرَّبُّ بِكُمْ وَاخْتَارَكُمْ لأَنَّكُمْ أَقَلُّ مِنْ سَائِرِ الشُّعُوبِ” (تثنية 6:7 و7)، “فَخَلَّصَهُمْ مِنْ أَجْلِ اسْمِهِ” (المزمور 8:106). هذا مرتبط بالقول الشهير أن مراحم الرب لا تزول، “فَإِنَّ الْجِبَالَ تَزُولُ وَالآكَامَ تَتَزَعْزَعُ أَمَّا إِحْسَانِي فَلاَ يَزُولُ عَنْكِ وَعَهْدُ سَلاَمِي لاَ يَتَزَعْزَعُ قَالَ رَاحِمُكِ الرَّبُّ” (إشعياء 10:45).
عندما نَتَذكَّر إختيار الله لنا نتأكَّد من أنَّنا سنكون محفُوظين حتى النهاية. ثقة الرسول بولس والقديسين لم تأتِ بسبب ثقتهم بأمانتهم، بل بسبب ثقتهم بأمانته هو: “إِنْ كُنَّا غَيْرَ أُمَنَاءَ فَهُوَ يَبْقَى أَمِيناً، لَنْ يَقْدِرَ أَنْ يُنْكِرَ نَفْسَهُ” (2تيموثاوس 13:2). هو أمين في دعوته وأمين في إكمال مشروعه ومشيئته حتى النهاية كما وعد.
يقول لورين بوتنر: “إذا كان إختيار الله للإنسان للحياة الأبديَّة حتميًّا وبلا شروط، وبفاعليَّة يُطَبِّق روحه القدوس فوائد الفداء عليهم؛ لا مفرّ من إستنتاج تأكيد خلاصهم”
نتأكَّد من المحبة ونتأكَّد من الغلبة والنجاح وهو لن يندم على خياراته ولا على عطاياه أبدًا: “لأَنَّ هِبَاتِ اللهِ وَدَعْوَتَهُ هِيَ بِلاَ نَدَامَةٍ” (رومية 29:11).
الإختيار والقداسة
يخاف البعض من أن تُسبب عقيدة الإختيار ضمانًا وراحةً للإنسان تدّفَعَهُ لحياة الكسل والرخاء والإستهتار بالسلوك، إذ على أساسها ضَمِنَ الحياة الأبديَّة. هذا الحذر طبيعي ومنطقي لأنَّ الكتاب يقول من دون قداسة لن يرى أحد الرب.
إن اختيار الله ليس مُنفصلًا عن القداسة، لأنَّه وببساطة، إختارنا للقداسة. إختيار الله هو للخلاص، والخلاص لا يكون خلاصًا من جهنم النار قبل أن يكون خلاصًا من الخطيَّة. عندما نتكلَّم عن الضمان والحفظ والثبات، نتكلَّم عن ضمان وحفظ وثبات الحياة المسيحيَّة الطاهرة حتى النهاية. لا يستطيع أن يدَّعي أحد أنه مختار وهو يحب العالم والخطية، فهذا تناقض ضمني.
ما الذي يُحفِّز الإنسان أكثر لحياة القداسة؟ الخوف من أن يخسر خلاصه أو انّ تعاظُم وإشتعال محبّة الربّ في قلبه بسبب إختياره وفدائه وأمانته؟ بحسب كلمة الرب وبالإختبار نرى أن محبّة الرب من كل القلب هي أقوى من الخوف، كما أنها دافع أقوى للخدمة والشهادة والتَمثُّل بالمسيح.
إنَّ طاعة الإنسان لوصايا الرب هي الدليل على محبته. فالتوبة والإيمان هما دليل حصول الولادة الجديدة. لا يمكن أن يختار الرب من لا يُطيع وصاياه، من لا يُحبه، ومن لا يُميَّز صوته ويأتي إليه عندما يدعوه. من يختاره الرب يعرف صوت الرب ويتبعه حتى الموت.
ما هو ذنب الآخرين؟
لا يوجد من يأتي إلى الربّ بالتوبة والإيمان ويُرفَض منه لأنَّهُ غير مختار. كُل من يُقبل إلى المسيح لن يُخرجه خارجًا كما وعد. إذن، ذنب الآخرين هو أنَّهم لم يؤمنوا بالمسيح وأحبَّوا الظلمة أكثر من النور لأنَّ أعمالهم شريرة. إنّ وصف الربّ لغير المؤمنين وغير المخلَّصين هو وصف لأعمالهم وخياراتهم التي قاموا بها بحريتهم. كما ذُكر في البداية. الله ليس مُلزَمًا بأن يُخلِّص أحدًا، بينما الإنسان مُلزم بأن يدفع ثمن خطاياه التي أحبها وتمسَّكَ بها. عقيدة الإختيار هي من أقوال الرب الخاصة لأولاده ولمن إلتجأ إليه، ليشرح له القصة من بدايتها وليُطَمْئنه إلى نهايتها. أمّا كلام الرب لجميع الآخرين فهو دعوة للتوبة والإيمان بالإنجيل “قَدْ كَمَلَ الزَّمَانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللَّهِ فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالإِنْجِيلِ” (مرقس 15:1).
اللاهوت الكلفيني
عقيدة الإختيار هذه هي جزء من عقائد النعمة التي يُطلق عليها تاريخيًا تعبير “الكلفينيَّة”. يُستخدم هذا التعبير من البعض لتصغير وتحقير عقائد النعمة وإظهارها كأنها من إختراع رجل في القرن السادس عشر. هذا التعبير مُستخدم لشهرته وشيوعه وهو فقط تعبير عن اللاهوت الذي يُشدد على مفهوم نعمة الله ومبادرته في خلاص الخطاة. تَتَلَخَّص هذه العقائد بخمسة مبادئ هي: 1- الفساد الكُلِّي للإنسان (أي لا قدرة للإنسان على إنقاذ نفسه بدون مساعدة الله. الفساد طال إرادة الإنسان ورغباته وكل ما فيه) 2- الإختيار الإلهي (بناء على مشيئته) 3- الكفارة البديليَّة الخاصَّة 4- فاعليَّة نعمة الله 5- ثبات القديسين. إذن، الكلفينيَّة هي تعبير لاهوتي عن هذه الحقائق الخمس ولا تعني التباعيَّة للاهوتي المُصلح الكبير جون كالفن أو تَبَنِّي لكل تعاليمه أو أرائه. كان كالفن بالفعل رجل الله الأمين ومن المفسّرين المُقتدرين، ومن أشهر من كتب عن الموضوع، لكن كما غيره، لم يكن على حق في كل شيء.
حقيقة تاريخيَّة هي أن العقيدة التي تُسمَّى “الكلفينيَّة” ليست من إنتاج أو ترتيب كالفن أبدًا. هو لم يُقدِّم أي شيء جديد. قبل جيل كامل من كتابَتِهِ للمُجلّد المعروف بأُسس ألإيمان المسيحي التي ظهرت فيه تفسيراته عن الموضوع، جادل مارتن لوثر الكاتب الكاثوليكي إيراسمس بالمواضيع نفسها. كتب مارتن لوثر سنة 1525 كتاب “عبوديَّة إرادة الإنسان” الذي عَبَّرّ فيه عن إيمانه العميق بعقائد النعمة قبل أن يسمع بوجود أحد يُدعى جون كالفن، الذي لم يكن حينها قد تجاوز السادسة عشر من عمره. سَرَدَ جون جيل آلاف الإقتباسات لمُعظم آباء الكنيسة مؤكدًا إيمانهم بنفس عقائد النعمة المعروفة “بالكلفينيَّة” منذ بداية الكنيسة الأولى. بدأ الخلاف العلني القوي عن الموضوع في بداية القرن الخامس عندما كانت الإمبراطوريَّة الرومانية تتهاوى أمام غزوات البرابرة. سقطت روما سنة 410م وكان أحد الهاربين من الجزر الإنكليزية إلى اليهوديَّة راهب يُدعى بيلاجيوس. في حَثِّه الناس على حياة القداسة وتأكيد مسؤوليَّة الإنسان عن أعماله، عَلَّم بيلاجيوس أن إرادة الإنسان حرَّة بالكامل ولها قوة الخيار، ورفض حقيقة أن الطبيعة البشريَّة هي فاسدة. وفي هذه المرحلة بدأ الخلاف يظهر بقوة بين بيلاجيوس، ورأيه الجديد، وأسقف هيبو القديس أوغسطينوس، المدافع عن الرأي التاريخي للكنيسة في الموضوع. إذن قبل ألف سنة من الإصلاح ومن وجود مارتن لوثر وجون كالفن كتب أغوسطينوس عن النعمة وقاوم بشدَّة بيلاجيوس وتلاميذه المدافعين عن حريَّة الإنسان الرافضين لسيادة الله المُطلقة على كل شيء وتأثير خطيَّة آدم على كل الجبلة البشريَّة التي تشمل عبوديَّة إرادته. بعد عشرين سنة من هذا الخلاف قام مجمع أفسس لأساقفة الكنيسة سنة 431 م بإدانة هرطقة بيلاجيوس. رغم ذلك إنتشرت تعاليمه وتأثيراتها وأخذت أشكالًا مُختلفة وأشهرها المعروف “بنصف بيلاجيَّة”، وهي أن النعمة تقوم بعمل أوَّلي وهو تحرير الإرادة لكن بعدها على الإنسان أن يقوم بالإختيار الحرّ. بالمُحَصِّلة، الخلاص ما زال يعتمد على شيء يقوم به الإنسان. أعاد مجمع أورنج للأساقفة سنة 529م إدانة البيلاجيَّة. فما قام به المُصلحون وعلى رأسهم جون كالفن هو إعادة إحياء عقيدة الخلاص بالنعمة التي علَّمَها آباء الكنيسة مرورًا بأغوسطينوس وجيروم وغيرهم.
للتبسيط، نستطيع ان نختصر المسألة بالتالي: الخلاص هو بالكامل من الربّ. وما يقوم به الإنسان هو نتيجة الخلاص، عمل النعمة، وليس مُسبب لها. حتى الإيمان هو نتيجة عمل الله في الإنسان وليس سببه.
إنَّ المبادئ الخمسة لم يضعَها جون كالفن بل هي جأت ردًّا وتصحيحًا لخمسة إعتراضات على تعليم الكنيسة المُصلحة التاريخي عن الموضوع وضعها تلامذة المُعَلِّم الهولندي جاكوب أرمينيوس بعد مئتي سنة تقريبًا من حياة جون كالفن. لذا أُطلق تعبير “الكلفينيَّة” كوصف للتعليم المعارض لتعليم أرمينيوس الذي كان سبب إطلاق تعبير”الأرمينيَّة” على التعليم المُتمسك بحرية الإنسان وإمكانيَّة الإرتداد عن الإيمان.
إذن ليست الكلفينيَّة تعليم شخص واحد بل أحد التعابير الأفضل عن عقائد تاريخيَّة تبَنَّاها أعظم المُعلمين والقديسين التي عرفتهم الكنيسة، وعلى رأسهم المُصلحون الإنجيليّون وأكثريَّة المُصلحين الإنكليز العمالقة المعروفين ب”البيوريتانز” أي الطهوريين. يصف جيمس باكر الكلفينيَّة بأنها “أوسع بكثير من الخمس نقاط. هي نظرة شاملة للعالم مُنبثقة من رؤية واضحة بأن الله هو صانع ومَلِك كُل العالم. الكالفينيَّة هي سعي ثابت للإعتراف بالخالق كرب يعمل كُل شيء بحسب مشيئته.”
هذا ما دفع شارلز سبرجن أن يقول: “الحق القديم الذي بشَّرَ به كالفن، الذي بشَّرَ به أوغسطينوس، الذي بشَّرَ به بولس، هو الحق الذي يجب أن أُبَشِّر به اليوم، أو سأُخطئ إلى ضميري وإلى الله.”
الخُلاصة
عقيدة الإختيار هي ضمن الترتيب السليم لمشروع الله للخلاص، “لأَنَّ الَّذِينَ سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ لِيَكُونُوا مُشَابِهِينَ صُورَةَ ابْنِهِ لِيَكُونَ هُوَ بِكْراً بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ وَالَّذِينَ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ فَهَؤُلاَءِ دَعَاهُمْ أَيْضاً. وَالَّذِينَ دَعَاهُمْ فَهَؤُلاَءِ بَرَّرَهُمْ أَيْضاً. وَالَّذِينَ بَرَّرَهُمْ فَهَؤُلاَءِ مَجَّدَهُمْ أَيْضاً.” (رومية 29:8 و30). هي التي تُرجع المجد لصاحبه، وتؤكد أن الكُل يعمل بحسب خطته الصالحة “الَّذِي فِيهِ أَيْضاً نِلْنَا نَصِيباً، مُعَيَّنِينَ سَابِقاً حَسَبَ قَصْدِ الَّذِي يَعْمَلُ كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ رَأْيِ مَشِيئَتِهِ،” (أفسس 11:1). يصف مايكل هورتن الصراع بالموضوع هكذا: “نبحث بعقم عن حَمَّالة نُعَلِّق عليها غُرورنا. إختارنا قبل أن نختاره (الإختيار)، جاء إلينا قبل أن نأتي إليه (التجسُّد)، ونحن بعد أعداء مات لأجلنا (الفداء). حتى أنه قَبِلَنا قبل أن نَقْبَله وأعطانا الحياة ونحن أموات (الدَّعوة). نعمة الله المُخلِّصة هي “القشَّة التي قصفت ظهر الجمل”، واسم هذا الجمل الكبرياء.”
نجاح رُغم الإخفاق
أثناء ثورة الإصلاح في إنجلترا، أصبح رئيس الأساقفة توماس كرانمر إنجيليًّا، وراح يعمل على إصلاح الكنائس. قُبض عليه وعُذّب ثلاث