حاضرٌ يكشف كثير عن الماضي

عندما ننظر الى هذا العالم ونتأمّل الخليقة والطبيعة، يتجلّى لنا المبدأ الثابت الذي نادى به الرسول بولس “أنّ ما يزرعه الانسان اياه يحصد أيضًا” (غلا 7:6). يتعجَّب البعض من عدم إيجاد أسباب واضحة ومباشرة لكثير من الأمور المؤلمة والغير متوقَّعة التي يواجهونها. من الأكيد أنَّ للبلايا الكثيرة مصادرًا مُتنوِّعة، لكن أحد الأسباب التي في الإجمال لا تحظى بالإهتمام الكثير هو إغفال قانون الزرع والحصاد. عندما نزرع شجرة تفاح لا يمكن ان نحصد فاكهة اخرى. فنحن نحصد ما نزرعه لا ما نتمنّاه. تاريخنا هو خياراتنا، ومواقفنا هي ثمار لتراكم مشاعرنا وأفكارنا القديمة. أين نحن اليوم هو نتيجة غير مباشرة لأين كُنّا وكيف إتجهنا.

يشتمل مبدأ الحصاد على أمرين مهمّين: الكميّة والنوعيّة. فالعدد الذي نزرعه من الاشجار يُحدِّد نسبة الثمار، والنوعيّة التي نستخدمها تُحدِّد النوعية التي سنستقبلها. إن زرعنا جسديات، حتمًا سنحصد الجسديات. غالباً ما يبرّر المؤمنون إهمال زرع الروحيات بالظروف الصعبة أو الإستثنائية، الاّ انّ هذه التبريرات لا يمكن ان تغيّر المبدأ. فمهما كانت الظروف، حتمًا سنحصد ما زرعناه من كميّة ونوعيّة مماثلة. الأيام قليلة وشرّيرة، لذلك كُل شيء له قيمة ونتيجة، وما من أمر لا يأخذ مكان آخر. الأرض تدور والزرع ينتشر والقلب كثيرًا ما ينخدع.

الزرع يتطلّب صبرًا وانتظارًا، فالحصاد لا يأتي حالاً، لكنّه عندما يَظهر بعد حين يَكشف حُسن زرعنا أم سوءه. فعندما يتحدّث المؤمن عن ضعفاته، وتجاربه، وآلامه، أو عن ضجر روحي في حياته، وما الى ذلك من امور لا تمجّد الله، قد تكون هذه الامور نتيجة لزرع فاسد قديم وليس وليد الساعة. فإذّ كنّا لا نعود إلى الوراء ونقيّم ما حدث في الماضي، لن نفهم بالكامل ما يحدث في الحاضر.

الأصعب في الموضوع هو أنّ الحصاد لا يتوقّف عند زماننا، اذ انّ الربّ يفتقد ذنوب الأباء بالأبناء. يَعلم الله الصالح والعادل كيف يجعل اولادنا واحفادنا يحصدون من زرعنا الجسدي بدون أن يَظلِمَهم. لا ندرِك بالتدقيق كيف يوفِّق بين هذا المبدأ والعدالة، لكنَّنا ندرك عن يقين أنّ الله يجمع كُل صفاته مَعًا في كُل أعماله. المحاسبة هي على أساس المسؤوليَّة الشخصيَّة، لكن للأخطاء إمتدادات زمنيَّة طويلة. من الناحية الأخرى، يعلم الله الرحوم والغفور كيف يجعل أولادنا يحصدون من زرعنا الروحي البركة والخير بفضل نعمته الغنيَّة. النتائج تمتدّ إلى الأجيال اللاحقة، وهذا يحملّنا مسؤوليّة كبيرة. فمثلاً، إن مارسَ احد الاغنياء ألعاب القمار وخسر ماله، فحتماً ستتحمّل الأجيال التي بعده من اولاده واحفاده مساوئ هذا الفعل. كتب جبران “ويلٌ لأمَّةٍ تحصد ممّا لا تزرع”، لكن هناك ويلٌ أكثر دمارًا وهو لأمَّةٍ لا تدري ماذا تزرع.

Share the Post:

other articles

نجاح رُغم الإخفاق

أثناء ثورة الإصلاح في إنجلترا، أصبح رئيس الأساقفة توماس كرانمر إنجيليًّا، وراح يعمل على إصلاح الكنائس. قُبض عليه وعُذّب ثلاث

Read More

أمراض القلب

تُصَنَّف الكثير من الأمراض، التي ليست عُضويَّة في طبيعتها، على أنها “نفسيَّة”، فتُعالج خطأً بالوسائل الطُبيَّة عبر الأدوية أو الإرشادات

Read More

لماذا خلقَنا الله؟

هل يحتاج الله لمن يُحبه ولمن يعبده؟ وجود الحاجة يعني وجود النقص. إذا كانت عمليَّة الخلق هي لتأمين الشركة مع

Read More

CONTACT

WORKING HOURS

Join THE SOCIAL CIRCLE

Get updates on special events  & added information