لقد تراجَعَت في الآونة الأخيرة نسبة المؤمنين الَّذين ينتمون إلى كنيسة محليَّة ما. فمثل هؤلاء يكتفون بانتمائهم الطَّائفي أو الفكري، غير مُدركين أهمِّيَّة الالتزام بكنيسة مُحدَّدة. يُعرِّفون عن أنفسهم على أنَّهم أعضاء في كنيسة المسيح الكونيَّة، وأنَّهم مُناصرون لمعلِّمٍ ما أو تابعون لواعظ ما ذي شهرة. وهذا المنطق أو الأسلوب لا ينسجمُ مُطلقًا مع خطَّة الله للإنسان، الَّتي ظهرَت في العهد الجديد من خلال التَّعليم الواضح عن الكنيسة المحلِّيَّة ودورها المحوري في حياة الفرد. بالنِّسبة إلى هؤلاء، فالحرِّيَّة والخصوصيَّة والانتقائيَّة هي من الأولويَّات. أمَّا في مفهوم الكنيسة الأولى، فالأولويَّة هي للخضوع والتَّضحية والطَّاعة. ظاهريًّا، تبدأ المُشكلة بمفهوم مُجتزأ عن الكنيسة. على الرُّغم من أنَّه في النِّهاية كُل المؤمنون في المسيح في هذا العالم سيُشكِّلون معًا الكنيسة العامَّة، أي عروس المسيح، إلَّا أنَّ العهد الجديد يتحدَّث دائمًا عن كنائس كثيرة وعن كيفيَّة تدبير وتنظيم أمور كل واحدة منها. إثرَ انتشار الإيمان في أماكن مختلفة حول العالم وخلال فترة وجيزة، بدأت الكنائس المحلِّيَّة تتأسَّس وتَتَنظَّم.
مَن هو العضو الحقيقي في جسد المسيح؟ العضو الحقيقي هو الَّذي يتنمي إلى كنيسة فعليَّة وحقيقيَّة مَعْروفة. لا يوجد عضو شَرَفي في كنيسة المسيح، بل في أغلب الأحيان يكون زائِرً، أو مُتردِّدًا أو صديقًا. ذلك لأنَّ الكنيسة ليست مكانًا مُحدَّدًا، بل هي عبارة عن جماعة من المُخلَّصين التَّائبين الَّذين خرَجوا من العالم واجتمعوا معًا، لا لِيسمعوا الوعظ فقط، أو يُمارِسوا الفرائض سويَّةً، بل أيضًا لِيتعاهدوا أمام الله وفيما بينهم بأن يُواظبوا على الشَّركة معًا في كل شيء. ولأنَّ الكنيسة ليست طائفة ما أو عقيدة ما، بل هي جماعة حقيقيَّة مُجتمِعة، عابدة ومُصَليَّة، فإمَّا أن يكون الشَّخص داخل الكنيسة وإمَّا خارجها، بحسب تعبير الرَّسول بولس.
يُعبِّر العهد الجديد عن فِعل الانضمام الحقيقيِّ للكنيسة، جماعة التَّلاميذ حينها، بكلمة “إلتَصَقَ”. مثال على ذلك، “وَلَمَّا جَاءَ شَاوُلُ إِلَى أُورُشَلِيمَ حَاوَلَ أَنْ يَلْتَصِقَ بِالتَّلاَمِيذِ وَكَانَ الْجَمِيعُ يَخَافُونَهُ غَيْرَ مُصَدِّقِينَ أَنَّهُ تِلْمِيذٌ.” (أعمال الرسل 26:9)، “وَجَرَتْ عَلَى أَيْدِي الرُّسُلِ آيَاتٌ وَعَجَائِبُ كَثِيرَةٌ فِي الشَّعْبِ. وَكَانَ الْجَمِيعُ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ فِي رِوَاقِ سُلَيْمَانَ. وَأَمَّا الآخَرُونَ فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَجْسُرُ أَنْ يَلْتَصِقَ بِهِمْ لَكِنْ كَانَ الشَّعْبُ يُعَظِّمُهُمْ.” (12:5-13). إذًا، العضويَّة الحقيقيَّة هي التصاق بجماعة محلِّيَّة، والتزام بالتَّعليم والتَّدبير برباط المحبَّة. الانتماء إلى الكنيسة العامَّة، كما يُسمِّيها البعض، هو ليس بديلًا عن الانتماء العملي والظَّاهري للكنيسة المحلِّيَّة، بل شرط طبيعي لها. لا يوجد في المسيحيَّة انتماء طائفي أو نظري أو حتَّى روحاني، بعيد عن خطَّة الله ومشروعه في جمع أولاده معًا.
إنَّ المبادىء والعقائد والأخلاقيَّات لا تستطيع أن تحلَّ مكان الأشخاص. فوجود الجماعة والانتماء إليها والشَّركة معها هي من صميم المسيحيَّة. ألَمْ يتحدَّث يسوع في معظم كلامه عن أشخاص ومعهم، حتَّى في أمثاله الكثيرة. يقول توزر بشجاعة، “يُمكنكم أن تستنتِجوا من هذه الكلمات ما شِئتم، لا أظن أنَّني مُستعد أن أُضحِّي بحياتي من أجل مبدأ. لكن بكل ثقة أقول بأنِّي مُستعد أن أموت من أجل مَن أُحب. ولي الثِّقة بأنِّي مُستعد أن أموت من أجل كنيسة المسيح”.
الكثير من النَّاس فضَّلوا الحريَّة الشَّخصيَّة على الخضوع. وآخرون فضَّلوا الخصوصيَّة على الوحدة والشَّركة الجماعيَّة. والبعض الآخر فضَّلَ أن يختار من هنا وهناك ما يَسْتَحسِنه، على أن يقبل كل التَّعليم ويُطيعه تمامًا كما وَضَعَهُ الرُّسل. إذا كانت الكنيسة كيانًا روحيًّا منظورًا وبناءً ظاهرًا، وجسمًا مؤلَّفًا من أفراد، كيف يكون الانتماء لهذه الكنيسة من دون الاشتراك في عضويَّتها وخدمتها؟ فنُمو الجسد وبُنيانه يعتمدان على إتمام كل فرد دوره ومهمَّته. مَن لا يعمل في كنيسة الله، لا يَبني ولا يُبنى.
نجاح رُغم الإخفاق
أثناء ثورة الإصلاح في إنجلترا، أصبح رئيس الأساقفة توماس كرانمر إنجيليًّا، وراح يعمل على إصلاح الكنائس. قُبض عليه وعُذّب ثلاث