دوَّامة الفراغ

الكُل يسعى باستمرار نحو الأفضل والأكثر. الإنسان لا يشبع، ولا يرضى، والعالم بإبداع مُتقَن، يُقَدِّم كل يوم للنَّاس ما يشتهونه وما يرغبون به. بالإضافة إلى هذا، يحرص هذا العالم على أن يُرفِّه عن النَّاس المُجاهدين في هذا السَّعي المتواصل، نازعًا منهم أي أمل في الفرح والسَّلام الحقيقيَّين. مخيفٌ هو ما يُحَلَّل وما يُسمَح به، وما يُتَغَاضَى عنه، وما يُنسى عند البعض من مبادىء وتعاليم مسيحيَّة ثمينة لأجل وفي خِضم ذاك السَّعي العالمي والدُّنيوي الخطير. لم تكن حياة الرَّسول بولس الأكثر نشاطًا في هذا العالم، سوى عبارة عن حياة مليئة بالتَّضحيات والصِّعاب. وهو لم يعمل على إزالتها أو التَّخفيف منها، بل عَمِلَ بصدق على الانتصار معها بواسطة الإكتفاء، “فَإِنِّي قَدْ تَعَلَّمْتُ أَنْ أَكُونَ مُكْتَفِيًا بِمَا أَنَا فِيهِ.” (فيلبي 11:4). الَّذي أوصى بالإكتفاء يَعلَم أنَّ الحاجة الأساس هي للإكتفاء، ويعلَم أيضًا أنَّ محبَّة المال ومحبَّة ما يشتريه المال، هو ليس بالأمر البسيط بل هو أصلٌ لكل الشُّرور. وكثيرًا ما تأتي طلبات البشر نتيجة الطَّمع أو الشَّك أو الخوف أو السُّلوك بالجسد. وكثيرًا ما تأتي طلبات البشر بسبب الأنانيَّة والجوع والعطش إلى العالم ومغرياته. الرَّبُّ عِندَ كلمته، ويده لا تقصر عن أن تصنع أي شيء، لكن ألَيسَت المسيحيَّة هي تسليم لمشيئته، إذ كل ما يحصل، يحصل بسماح منه! ألَيسَ الإيمان هو قبول ما قسَمَه الله لنا، والتَّسليم لعنايته بفرح ومن دون تذمُّر! قد تكون حياة الإنسان أحيانًا مليئة بالعمل والطلب للحصول على كثير من الأمور، بينما يعمل الله، دائمًا وليس أحيانًا، للحصول علينا أكثر. فالمسيحيَّة ليست طريق الوصول إلى الله للحصول على كل حاجة، بل هي وصول الله إلينا بشخصه. هو الَّذي يُشبعنا ويجعل نعمته تكفينا حتَّى في ضعفِنا. في ختام كتابه الرَّائع عن هذا الموضوع، قَدَّمَ جيريميا بوروه، نصائح أخيرة لكيفيَّة الوصول إلى الاكتفاء، وأوَّلها كانت هذه النَّصيحة، “كل القوانين والمساعدات في العالم لن تكون ذا فائدة كبيرة، إلَّا إذا تمتَّعنا بمزاج جيِّد داخل قلوبنا. فأنت لن تستطيع أن تقود سفينة باستقامة عبر إسنادها من الخارج، يجب أن يكون هناك ثِقل في داخلها. هكذا هي الحال معنا كبشر، لا شيء خارج عنَّا يستطيع أن يُبقي قلوبنا مُستقيمة ومُنتظِمة سوى ما هو في داخلنا: النِّعمة في النَّفس تفعل ذلك.” الطَّمع هو من فضائل هذا العالم وبوابة الدخول في رحلة الفراغ الطويلة.

Share the Post:

other articles

نجاح رُغم الإخفاق

أثناء ثورة الإصلاح في إنجلترا، أصبح رئيس الأساقفة توماس كرانمر إنجيليًّا، وراح يعمل على إصلاح الكنائس. قُبض عليه وعُذّب ثلاث

Read More

أمراض القلب

تُصَنَّف الكثير من الأمراض، التي ليست عُضويَّة في طبيعتها، على أنها “نفسيَّة”، فتُعالج خطأً بالوسائل الطُبيَّة عبر الأدوية أو الإرشادات

Read More

لماذا خلقَنا الله؟

هل يحتاج الله لمن يُحبه ولمن يعبده؟ وجود الحاجة يعني وجود النقص. إذا كانت عمليَّة الخلق هي لتأمين الشركة مع

Read More

CONTACT

WORKING HOURS

Join THE SOCIAL CIRCLE

Get updates on special events  & added information